النهضة لم تكن جادة في “التوافق” مع الرئيس الراحل قايد السبسي!
عبد الرؤوف الخماسي
غالبا ما تفرض ” الكتابة الاحتفالية ” صعوبات إضافية على من يريد التفاعل مع المناسبات المرتبطة بأحداث وطنية أو دولية أو بشخصيات تركت بصمتها في مجال اشتغالها. و لا شك أن الصعوبة تزداد حين يتعلق الأمر بشخصية في حجم و حضور و إسهام المرحوم الباجي قايد السبسي الذي نتأهب لاحياء مرور سنة على وفاته، يوم السبت 25 جويلية الجاري، وبهذه المناسبة نخصص في موقع “التونسيون”، ملف حول الرئيس الراحل والزعيم الوطني، والرجل الذي ارتبط اسمه عضويا بمسار الانتقال الديمقراطي، الذي انطلق بعد ثورة 14 جانفي 2011، وننشر في ما يلي مقال للقيادي في حركة “نداء تونس”، عبد الرؤوف الخماسي .
أعتقد أنه من الضروري الانكباب على توثيق أهم ما ميز مرور الباجي قائد السبسي بالحكم و أيضا بالمعارضة في السنوات التي أعقبت 14جانفي 2011. ذلك أن هذا العمل سيبرز جوانب من مسيرته و خاصة معطيات ظل تأثيرها قائما إلى حد الآن في الحياة السياسية.
في تقديري فإن نجاح هذا المسعى يفترص أساسا إدراك القيم التي كانت تقود الباجي قائد السبسي من جهة و أهم خصائص شخصيته من جهة أخرى. و هنا من الضروري الإشارة إلى أن الباجي قائد السبسي كان من أشد المؤمنين بالحوار و بضرورة تجميع كل القوى السياسية حول رؤية مشتركة لأسباب الأزمة و خاصة لسبل مواجهتها و أن تونس قد أتيحت لها فرصة لتكريس نظام ديمقراطي لا يجب اضاعتها.
كان الباجي قائد السبسي يتحلى بشجاعة لا يعبر عنها بالخطب الرنانة رغم أنه متمكن من الخطابة بل بالمواقف التي يتخذها إذ لا يتردد في السير ضد الأفكار السائدة إذا ما اقتنع أن في ذلك كسبا للشعب التونسي في المستقبل و ما جعل الباجي قايد السبسي ينجح هو أنه لم يكن ” يخاف ” من عمليات سبر الآراء و لا يبحث عن إرضاء الناس كيفما اتفق.
لقد عكست عبارة ” اللي يخاف يشد دارو ” التي أطلقها في مرحلة صعبة من حياة نداء تونس رؤيته و شخصيته. و من أهم الاختيارات التي تعكس رؤية الباجي قايد السبسي للممارسة السياسية و جوانب من شخصيتها تجربة التوافق مع حركة النهضة و مع رئيسها راشد الغنوشي.
حين ننزل هذا التمشي الذي اختاره مؤسس حركة نداء تونس في إطاره سنة 2013 ندرك مقدار الشجاعة السياسية التي تحلى بها الباجي قائد السبسي. كانت البلاد تعيش انقساما سياسيا حادا غذته اغتيالات سياسية و رغبة في الاستحواذ على المؤسسات إلى جانب هيمنة خطاب اقصائي بين الأطراف السياسية يجعل من الصعب التفكير في خطوة تقارب حتى و إن كانت صغيرة بين أبرز حزبين في المشهد السياسي و هما نداء تونس و النهضة.
لم تكن هذه الخطوة مطلبا شعبيا بل أن عددا كبيرا من رجال السياسة الذين يحسبون خطواتهم بمقياس القبول الشعبي كانوا يرفضون ذلك بشكل عملي. و لكن ما يتحلى به الباجي قائد السبسي من شجاعة سياسية جعله يترك جانبا هذه الاعتبارات لأنه أدرك أن تواصل التوتر و انتشاره قد يسقط البلاد في شراك العنف السياسي و هو ما جعله يقرر السير ضد التيار و يقرر الجلوس إلى راشد الغنوشي ليضبط معه قواعد للعلاقة السياسية بين الحزبين قوامها الاحتكام إلى القانون و الانتخابات و تغليب كل ما هو وطني في الممارسة السياسية.
قد تكون هذه الأرضية محدودة من الناحية العملية و لكنها تمثل نواة يمكن تطويرها بما من شأنه أن يوسع القواسم الوطنية المشتركة و أن يبعد عن تونس و بشكل دائم كل عوامل الانتكاس و التوتر.
لم تحرك الباجي قائد السبسي حين سعى للتوافق أهداف غير التوافق و كان شديد الإيمان به و لكن لم تبادله حركة النهضة نفس الاقتناع و الحماس و هو ما جعله توافقا من جانب واحد. سايرت النهضة الباجي قائد السبسي أكثر مما انخرطت معه و هو ما جعل التمشي يفشل بل أن الخطاب الإنتخابي لحركة النهضة كان انقلابا صريحا و غير مفهوم إذ شبهت التوافق بمواجهة ملاكمة لا بد من حشر الخصم فيها و هو نداء تونس في الزاوية.
طغيان الاعتبارات الانتخابية و الذاتية هو الذي جعل حركة النهضة تنقلب على التوافق و تتبنى خطابا تفوح منه رائحة الكراهية و تقبل بأن يشتم حلفاؤها رموز الحركة الدستورية و تواصل تقسيم التونسيين و التونسيات حسب انتماءاتهم السياسية و تواصل تهميش كفاءات وطنية لا لشيء إلا لأنها عملت مع النظام السابق.
لا شك أن النهضة خسرت كثيرا من تخليها عن سياسات التوافق سواء من الناحية الإنتخابية أو في مستوى علاقاتها السياسية داخليا و خارجيا و هو ما يعني أن تبني خيار التوافق بشكل صادق و استراتيجي قد يكون الفرصة الأخيرة لراشد الغنوشي لدخول التاريخ من أفضل أبوابه و ذلك بمد اليد إلى الدساترة و التخلي عن خطاب العنف السياسي و الابتعاد عن الذين لا دور لهم إلا شتم الدساترة و الدولة الوطنية و الإيمان بأن السير في طريق غير طريق الحوار و المصالحة الحقيقية قد يكون مكلفا على الجميع و يمثل تهديدا للمستقبل.
Comments