“النهضة”: “من الجماعة الى الحكم”: نهاية الترويكا، البراغماتية والواقعية السياسية / 13 من 30/
منذر بالضيافي
عرف حكم الترويكا، بقيادة حركة “النهضة”، أزمة سياسية مربكة خلال النّصف الثاني من سنة 2013، استمرت ستة أشهر كاملة، وذلك بعد اغتيال النائب محمد البراهمي، وهو ثاني اغتيال سياسي خلال فترة حكم الاسلاميين، بعد اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد، في فيفري 2013.
طالت الأزمة السياسية، ورمت بظلالها على مصير ومستقبل مسار الانتقال الديمقراطي، فضلا عن بروز مخاوف جدية من الانزلاق نحو الفوضى أو حتى الحرب الأهلية، أزمة كان من أبرز مظاهرها، تعطل نشاط المجلس الوطني التأسيسي، المكلّف بكتابة الدّستور، واقتصار عمل الحكومة القائمة، التي كانت تقودها حركة النّهضة الإسلامية على ما يشبه تصريف الأعمال.
وبعد حوار وطني حصل توافق يقضي بإنهاء الأزمة عبر استقالة الحكومة، وقبول حركة النّهضة بالخروج من حكم تونس، الذي جاؤوا إليه بعد فوزهم في انتخابات 23 أكتوبر 2011.
خروج – وان كان سلمي وضمن اطار تحاوري – الا أنه مع ذلك جعل الكثيرين يرون فيه سيناريو أعاد إنتاج ما حصل مع إخوان مصر، لكن بطريقة “ناعمة” وسلمية، وهي من خصوصيات الأنموذج التّونسي، المستمدة من التراث الثقافي السّياسي، الذي قام على أساس مبدأ التّحييد “الإيجابي” للمؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية.
قبول حركة النهضة، الخروج بصفة “سلمية” من الحكم، أُعتبر على أنّه مثل مخرجا “مشرّفا” للإسلاميين وبديلا عن “الانتحار السّياسي” في سدّة الحكم. كما أنّه عبّر عن قراءة واقعية من قيادة الحركة –خاصة زعيمها راشد الغنوشي- لموقع “الجماعة” في المشهد التّونسي. هذا ما يجعل منه قرارا براغماتيا، بالنّظر إلى المتغيّرات والتحوّلات الإقليمية والدّولية، في علاقة بمستقبل وجود تيار الإسلام السّياسي في الحكم، وحتى في المشهد السياسي والمجتمعي.
كما لا يجب أن ننسى أنه جاء بعد تواصل استمرار مفعول تفاعلات “الصّدمة” المصرية، المتمثلة في سقوط حكم الإخوان. الذين خيروا العنف على الحلّ السّياسي، من خلال إعلانهم شنّ حرب على المجتمع والدّولة.
وهو الأمر الّذي جعلهم يتحوّلون إلى “جماعة إرهابية” مُطاردة أمنيا، وهو المصير الذي يبدوا أن قيادة النهضة التونسية عملت على تجنبه، حتىّ وإن كان المقابل الخروج من الحكم. كما برز إجماع وطني – حتى داخل تيّار مؤثّر في النّهضة -، على الإقرار بأنّ الحكومة لم توفّق في الاستجابة لمطالب الثورة ولابدّ أن ترحل، خصوصا وأنّ الأوضاع لم تعرف تغييرا كبيرا عمّا كانت عليه في السّابق. بل ازدادت سوءا من حيث تدهور المقدرة الشرائية، وما صاحبها من تفقير لقطاعات واسعة من المجتمع، و انهيار غير مسبوق للوضع الاقتصادي.
زيادة على أنّ وحدة المجتمع والدّولة أصبحتا مهددتين، بعد تنامي مظاهر الانقسام المجتمعي، النّاجم عن تقسيم المجتمع إلى “إسلاميين” و”علمانيين”. يضاف إليها فشل السّياسة الأمنية، بعد تكرّر الاغتيالات السّياسية، وتنامي مخاطر وتهديدات الجماعات الدّينية المتشدّدة، التي انتشرت وتعدّدت أنشطتها في ضوء تسامح وصل درجة ما يشبه “التواطؤ” من قبل الحكومة القائمة، ذات المرجعية الإسلامية.
ضمن هذا السّياق، اختارت قيادة النّهضة –حتى وإن دفعت إلى ذلك دفعا- الانسحاب من الحكم، وتخليص نفسها من ضغوطه و إكراهاته، والانصراف إلى إعادة ترميم هيكلة الحزب وصورته لدي التونسيين.
ولعلّ هذا الخيار هو الذي تبيّن أنّه الأنسب، حيث مكّن من المحافظة على بنية التنظيم ووحدته. وقام بإنقاذ ما تبقي من الرّصيد الشّعبي، الأمر الذي مكّن النّهضة من حسن الإعداد للاستحقاق الانتخابي (برلمانيات 2014)، من خارج السّلطة. وهو ما توفقت فيه الحركة، إذ تمكّنت من حصد 69 مقعدا في البرلمان، وجاءت في المركز الثاني بعد حزب “نداء تونس”، الذي تحصل على 86 مقعدا. وهو ما سمح بمشاركة “النّهضة” في الحكومة، وبالتّالي ضمان البقاء في المشهد السّياسي الوطني وكذلك الدّولي، من خلال تحولها الى مخاطب للقوي الدولية، الذي ستدعمه تحركات الغنوشي الدولية، أو ما أطلق عليه لاحقا ب “الدبلوماسية الشعبية”.
إنّ قرار النّهضة بالخروج بصفة “سلمية”، عبّر عن مرونة في التعاطي مع المتغيّرات والضغوطات الدّاخلية والخارجية. وهو أيضا، دليل على قراءة براغماتية لتطوّرات الأحداث داخليا ودوليا، وموقع النهضة والتيار الإسلامي عموما فيها. وهذا ما أكدت عليه الحركة في بيان لها بمناسبة استقالة الحكومة. إذ اعتبرت أن استقالة رئيس الحكومة التي أفرزتها أوّل انتخابات حرّة في تاريخ البلاد “فتح أفقا جديدا للتّداول على السّلطة تعزز فيه الشّرعية الانتخابية بالتّوافق الوطني”.
مؤكدة على “إن أهمية النّجاح الذي تحقّق في تونس من خلال الانتقال السّلس للسّلطة في هذه المرحلة من الحوار الوطني يقاس بحجم التحدّيات والتّهديدات التي اعترضت سبيل الانتقال الدّيمقراطي وانتصر فيها خيار الحكمة والمسؤولية والتّوافق على خيار المغامرة والتّشكيك في جدّية حركة النّهضة و في قدرة الشّعب على حماية ثورته والدّفاع عن مكاسبها”.
كما أكّد البيان على “أن بلادنا تدخل طورا جديدا في طريق البناء الدّيمقراطي ملتزمة بأهداف الثّورة التي يستعدّ شعبنا للاحتفال بالذّكرى الثالثة لنجاحها و إنّ حركة النّهضة تؤكّد :أنّ ما تحقّق يعد انتصار لإرادة الوفاق والحوار على نزعات الفوضى و التجاذبات العبثية وقد ساهمت حركتنا وأطراف وطنية كثيرة في تحقيق هذه الانجازات. و أنّ تونس قدّمت درسا للعالم في التّداول السّلمي على السّلطة و أن هذه الاستقالة عبّرت عن الالتزام العميق لحركتنا بتقديم مصلحة البلاد العليا على أي مصلحة حزبية أو فئوية ضيقة وحرصها على نجاح الانتقال الدّيمقراطي. و أنّ الاستقالة الطوعية للحكومة و إيفاء الحركة بكلّ التزاماتها وتعهداتها يؤكد أن حركة النهضة غير متشبثة بالحكم و أنها مستعدة للتضحية من أجل مصلحة الوطن”
برغم أهمية السّياق الداخلي والإقليمي والدولي، الذي أجبرت فيه النّهضة على القبول بالتنحيّ عن السّلطة، فإن جل المحلّلين والباحثين اعتبروا أنّ ذلك لا يقلّل من أهمية القرار الذي تم اتّخاذه، والذي دفع صحيفة “كريستيان ساينس مونيتور” الأمريكية إلى القول بأنّه “في ديمقراطية ناشئة، تبرز لحظة حاسمة في غاية الأهمية، والتي تتجلّى في مشهد تخلي أول قيادة منتخبة في البلاد عن السلطة بشكل سلمي”.
ذات الموقف تقريبا، أشار إليه الباحث في “معهد واشنطن”، ديفيد بولوك ، الذي أكد على أنّها المرة الأولى على الإطلاق، في أي مكان – يتنازل فيها حزب إسلامي طواعية عن السّلطة السياسية دون حرب أهلية أو عنف جماهيري أو تدخل عسكري من أي نوع. إنّ هذا الحزب في هذه الحالة هو “النهضة”، الذي قاد التحالف الحاكم في تونس بعد فوزه بما يقرب من 40 بالمائة من الأصوات في الانتخابات التي أعقبت الثورة والتي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2011”.) ).
Comments