النهضة وشيخها في مأزق !
منذر بالضيافي
بعد أكثر من 6 اسابيع، من بداية ما أصبح يعرف ب “أزمة التحوير الوزاري”، دخلت البلاد في أتون مأزق سياسي غير مسبوق، نجم عنه حالة عطالة في مؤسسات الدولة، وشلل في هيكلة ونشاط حكومة هشام المشيشي، وذلك بعد رفض الرئيس قيس سعيد الاعتراف بالتحوير الوزاري الأخير، عبر قبول الوزراء الذين نالوا ثقة البرلمان، لأداء اليمين الدستوري في قصر قرطاج، في ما أعتبر مخافة صريحة للدستور، ترتقي في ما يشبه اجماع المختصين الى “خرق للدستور”.
كما استمر في الأثناء رفض كل مبادرات الحوار لتجاوز الأزمة، ولا يتوقع أن تعرف الأوضاع “حلحلة” في قادم الأيام، خاصة في ظل “تمترس” كل طرف بموقفه، وتصاعد خطابات “الاتهامات”، التي وصلت حد غير متعارف عليه، في العلاقة بين مؤسسات الحكم، وذلك في ظل تواصل انهيار الوضع الاقتصادي، الذي لم يعد خافيا أنه أصبح مزعجا، بشهادة المؤسسات المالية الدولية، وهو ما نجم عنه “تدخل” لسفراء الدول الكبرى، التي عبرت صراحة عن انشغالها بما يجري في تونس.
في الأثناء، وأمام عجز العقل السياسي عن ادارة الأزمة، تم ترحيل الأزمة الى الشارع في مسعى لفرض تسوية سياسية، فكان قرار جماعة النهضة بالخروج في “مليوينة” السبت 27 فيفري الفارط، وبرغم الطابع الاستعراضي للحشود التي جاءت من كل الجهات، فان “حشود النهضة” لم تغير في الواقع السياسي شيئا، بل ربما زادت في تأزيم الوضع، وجعلت فرصة الحوار مؤجلة الى أجل غير مسمى، ولم تجد النهضة التي يبدو أنها الطرف الأكثر تضررا من الأزمة، ما يشير الى امكانية تحقيق “اختراق”، يساعدها على اقناع الرئيس سعيد بالجلوس معها للتفاوض – وهنا نقدر أنها مستعدة لتقديم التنازلات -، الذي استمر في ارسال صواريخه باتجاهها، ما جعل الكثير من قياداتها يفقدون صبرهم، برز ذلك من خلال تصريحاتهم الاعلامية و” تدويناتهم الفيسبوكية”، التي كشفت عن حالة ارتباك وتخبط في التعاطي مع موقف الرئيس قيس سعيد.
تطالب النهضة بتفعيل الحوار، وتضغط من كل الجهات لفرضه، لكنها في المقابل نجد أنها تسقط في ما يشبه “شيطنة” الرئيس سعيد، من خلال “التهجم” على الرئيس، وتحميله مسؤولية “البلوكاج” الذي الت اليه الأوضاع، في تزامن مع محاولة احياء “ضغط خارجي” على قصر قرطاج، عبر شروع رئيسها الغنوشي في “حملة علاقات دولية” موجهة لصانع القرار الأمريكي، تساوقت بين استقبال السفير الأمريكي بتونس دونالد بلوم، ونشر الغنوشي مقالات وحوارت في الصحف الأمريكية، تبين أنه في الواقع كمن يحرث في البحر، سواء بالنسبة لطبيعة تعاطي الرئيس قيس معها، او بالنسبة للرأي العام الوطني والنخب السياسية، التي ذكرتها بحملات نظام بن علي في زمن وكالة الاتصال الخارجي، والتي كان يلجأ اليها لتلميع صورته، وسط فشل داخلي يكبر مع الأيام، وانتهى بإقصائه من السلطة واسقاط نظامه، عبر ثورة شعبية عارمة.
برغم الخروج الاستعراضي في الشارع، والمكابرة السياسية في الداخل والخارج، فان حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي الذي يشغل خطة رئاسة البرلمان، في أسوأ حالاتها مجتمعيا وسياسيا، ففي المستوى المجتمعي تعيش الحركة حالة تراجع كبير في شعبيتها، والتحشيد الذي مارسته منذ أسبوع لا يعبر عن وزنها الشعبي، وهي التي تراجعت بشكل كبير ولافت من جهة خزانها الانتخابي، من مليون ونصف المليون سنة 2011 ( انتخابات المجلس الوطني التأسيسي) الى أقل من نصف مليون في انتخابات 2019 كما لم توفق في تصعيد مرشحها للرئاسة الى الدور الثاني، فضلا عن تطابق في كل نتائج عمليات سبر الأراء التي نشرت في الأيام الأخيرة، والتي كشفت عن تراجع وزرنها أمام صعود صاروخي لغريمها “الحزب الدستوري الحر”، الذي تتزعمه عبير موسي التي “نغصت” على “الشيخ” الغنوشي “متعة” رئاسة مجلس نواب الشعب.
المشهد الحالي يجعل الحركة الاسلامية، في أسوأ أوضاعها منذ رجوعها للحياة السياسية، بعد ثورة 14 جانفي 2011، فإضافة للتراجع المجتمعي فإنها في “مأزق سياسي”، ولا نبالغ بالقول بكونها الطرف الأكثر تضررا من “حالة البلوكاج السياسي”، التي تعصف بالبلاد وتنذر بمزيد حشرها في الزاوية وفرض “عزلة” عليها، وهي التي تجد نفسها بين مطرقة “شعبوية” الرئيس قيس سعيد و “فاشية” ( والتسمية للنهضويين) عبير موسي، وتراجع دعوات الحوار الوطني في ظل وجود “خطوط حمراء” من القصر الرئاسي، تأخر فرص الحوار الوطني لانقاد البلاد التي تعيش ازمة شاملة، تنذر بالاسوا خاصة في ظل تراجع دور وحضور المنظمات الوطنية، و عجز الرئاسات ( قرطاج و القصبة وباردو) عن” التعايش” في ما بينها عبر ايجاد تسوية بينهما، تكون أرضية لانطلاق حوار، يقدم “الوصفة السحرية”، لبداية الاتجاه نحو الحل.
في اوت 2013، وفي مناخ شديد التوتر وبعد حصول اغتيالات سياسية، وتعطيل عمل المجلس الوطني التأسيسي، كان اعتصام الصمود كشكل نضال سياسي سلمي ، فرض تسوية سياسية وجنب البلاد الانزلاق نحو الحرب الاهلية، وحافظ على مسار الانتقال الديموقراطي ، الذي يجب ان يبقى بوصلة الجميع.
هي ذاتها نفس المناخات اليوم، وربما اكثر حدة في ظل انهيار اقتصادي وتوتر اجتماعي وانتشار وباء يهدد حياة الناس، وبالتالي فان التسوية السياسية وقطع الطريق على الفوضى يجب ان تكون لها الاولوية، وهذا ما تلهث ورائه النهضة و الشيخ الغنوشي، لكن لا مجيب ولا “بجبوج” في الجهة المقابلة.
نفتقد اليوم حكمة وتجربة وبراغماتية سياسي مخضرم في حجم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، صحيح يومها كان “سي الباجي” طرفا في الصراع، لكن وهو السياسي المخضرم والذي يحسن ادارة الازمات، ضغط للوصول لتسوية سياسية منصفة للجميع، ولتجنيب البلاد الفوضى والتقاتل، وكان له ما اراد واسس لتوافق وطني، كان سيستمر لولا جشع الغنوشي واخوته، وهاهم يدفعون اليوم الثمن.
Comments