النهضة وعشرية الحكم: فشل سياسي و رفض مجتمعي
منذر بالضيافي
كشف التجاوب الشعبي الكبير، مع قرارات الرئيس قيس سعيد، في 25 جويلية الجاري، استنادا الى الفصل 80 من الدستور، بعد معاينة وجود “خطر داهم”، عن حجم الرفض المجتمعي لحكم الاسلاميين والعزلة السياسية لهذا التيار، وذلك بعد الفشل السياسي الغير مسبوق في ادارة وتسيير البلاد، الذي نجم عنه تردي في كل الخدمات الأساسية، نتيجة تفكيك الدولة من الداخل، وتحويل البلاد الى “رهينة” للدستور “الملغم”، ولديمقراطية ينخرها الفساد، وبلا منجز اجتماعي واقتصادي.
الخطر الداهم .. و تصحيح المسار
بعيدا عن الجدل، الدستوري والسياسي، حول توصيف ما قام به الرئيس سعيد، الا أنه في انسجام مع روح الفصل 80 من الدستور، نعم ان ما وصلت اليه البلاد والدولة التونسية، هو في تقدير كل متابع موضوعي يرتقي الى ” الخطر الداهم”، وهو خطر موجود وماثل في الواقع، ولعل هذا ما يفسر تصاعد الدعوات للرئيس بالتحرك خلال الفترة الاخيرة، وهو ما اقر به بنفسه عندما أكد على أنه تأخر في التحرك، وهو الذي توجه بتنبيهات في أكثر من مناسبة، لكن “الجماعية” لا ينصتون واختاروا الهروب للأمام.
بالنظر الى تعطل مؤسسات الدولة التي اصبحت عاجزة عن توفير الخدمات الأساسية، وهو ما أكدته أزمة الوباء ( وفاة 20 الف تونسي)، فضلا عن انهيار كل المؤشرات الاقتصادية، وبروز شبح افلاس الخزينة، وتعطل التواصل بين رأسي السلطة التنفيذية، ودخول البرلمان في حالة من العبث وسوء التسيير والادارة ، ما اثر على صورته ودوره.
في هذا السياق يجب وضع القرارات الرئاسية بتعليق نشاط البرلمان، ورفع الحصانة عن النواب و عزل رئيس الحكومة هشام المشيشي، تلك القرارات التي وجدت تجاوبا كبيرا داخل الشعب وأيضا في صفوف النخب حتى تلك المختلفة مع أداء وتصورات قيس سعيد، كما وجدت تفاعلا ايجابيا من قبل مكونات المجتمع المدني الرئيسية، ممثلة في المنظمات الوطنية، التي أعلنت عن مساندتها واعتبرت ما حصل “تصحيح للمسار”، مع مطالبتها بتوضيح خارطة الطريق، وعدم التفريط في الحريات والحقوق.
الاسلاميون، تجربة حكم فاشلة
و الذي مثل عنوان ل “الفشل السياسي” وكذلك “السقوط الأخلاقي”، مثلما عبر عن ذلك السواد الأعظم من التونسيين، سواء أثناء الاحتجاجات التي تمت نهار يوم 25 جويلية، حيث استهدف المحتجون مقرات “الحزب الحاكم”، في اعادة انتاج لسيناريو ما حصل قبل عشرة سنوات، مع حزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي (التجمع الدستوري الديمقراطي)، أو بعد قرارات الرئيس سعيد في مساء 25 جويلية وما بعدها.
وعلى خلاف “النخب” التي دخلت في جدل حول “شرعية” ما حصل : هل هو “انقلاب” أم “حركة تصحيحية” ؟ فان عامة الناس عبرت عما أسمته ب “رفع الغمة”، واشادوا بإنهاء حكم الاسلاميين، ما منح الرئيس سعيد “شرعية الواقع” أو “الشرعية الشعبية”، التي ستكون سنده في ادارة المرحلة القادمة، وفي خارطة الطريق التي من المتوقع أن يعلن عنها قريبا.
أكدت قرارات 25 جويلية، انه و بعد مرور أكثر من عشرة سنوات من المشاركة القوية والمؤثرة لحركة النهضة الاسلامية في الحكم، ما زال المشهد المجتمعي وكذلك السياسي العام يرفض حكم الاسلاميين، وهو ما أكدته سنوات الحكم العشرة الأخيرة، التي أكدت على أن “اخوان تونس”، أعادوا مرة أخرى سيناريو التجارب الفاشلة والمؤلمة التي حكمت باسم “الاسلام السياسي”، كما تصاعد الرفض الشعبي بسبب الممارسة السلوكية لهذا التيار، الذي وظف مقدرات الدولة لخلق زبونية حوله وللاستثراء الغير شرعي، وهو ما يعبر عن “سقوط أخلاقي” لتيار يدعي “العفة” و “نظافة اليد”.
رفض مجتمعي .. بلا حاضنة مجتمعية
كما أكدت سنوات حكم النهضة، على شرعية وجدية المخاوف التي عبرت عنها النخب التقدمية والوطنية، الذين يرون في ” النهضة ” تهديدا جديا لمدنية الدولة، وللمكاسب المجتمعية التي تحققت خلال دولة الاستقلال، فضلا عن افتقادها لمشروع الحكم، وهي مخاوف لم تنجح “النهضة” في الحد منها وتبديدها، بل أنها تجذرت وترسخت أكثر بسبب الأداء السياسي للنهضة في الحكم، لتجد الحركة نفسها بعد عشرية الثورة، في وضع سمته رفض مجتمعي متصاعد، وعزلة سياسية أصبحت واقعا، برغم تواصل وجودها في الحكم وفي الهيمنة على البرلمان، الذي عمدت الى تحويله الى “شورى الجماعة”.
زادت سنوات حكم النهضة من مخاوف خصومها، هذا ما يفسر عودة الاستقطاب معها بقوة وبأكثر “شراسة” من السنوات الأولى للثورة، خاصة مع تصاعد تأثير الحزب الدستوري الحر في البرلمان وخارجه، الذي جعلت رئيسته عبير موسي – القيادية السابقة في التجمع الدستوري الديمقراطي- من معارضة “الاخوان” شعارا مركزيا لنشاطها السياسي، مكنها من كسب نقاط عديدة مجتمعيا وسياسيا، نجد ترجمة له من خلال تصدر الدستوري الحر لنوايا التصويت في التشريعية، وتقدم عبير موسي في نوايا التصويت في الرئاسيات.
قيس سعيد .. رفض الاسلام السياسي
استقطاب ارتفع منسوبه، بعد احتدام الصراع بين الرئيس قيس سعيد وحركة النهضة، خاصة بعد زيارة سعيد لمصر، والحفاوة الكبيرة التي قوبل بها من قبل الرئيس عبد الفتاح السياسي، والذي اعتبرته قيادة النهضة رسالة سلبية ضدها، تأكدت مع خطاب قيس سعيد في جامع الزيتونة ساعات قليلة بعد عودته من القاهرة، والذي تطرق فيه ولأول مرة الى التفريق بين “المسلمين” و “الاسلاميين” في اشارة دالة على تبنيه لتصورات المعسكر المعادي لتيار الاسلام السياسي.
كما استمرت في مجلس نواب الشعب، مظاهر الحشد لسحب الثقة من رئيس النهضة راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان، بعد محاولة أولى فاشلة، مستفيدة من وضعية التململ داخل كتلة قلب تونس، التي أعلن صراحة عدد من نوابها عن امكانية التحاقهم بمعسكر سحب الثقة من “الشيخ.
مما تقدم، ومن خلال قراءة في المشهد البرلماني، والسياسي العام في البلاد، وكذلك لحالة الرفض المجتمعي المتنامية لاستمرار حكم الاسلاميين، نلاحظ أننا بصدد العودة الى مربع الأول الذي تشكل بعد الثورة واستمر الى انتخابات 2014، والذي تمثل في رفض فكرة ادماج الاسلام السياسي في الحكم خاصة، ونقد تجربة “التوافق” بين الاسلاميين وخصومهم، زمن حكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي (2014/2019).
هذا الرفض تم التعبير عنه بوضوح من خلال المساندة الشعبية لقرارات الرئيس سعيد الأخيرة والتي كان عنوانها الأبرز اخراج الاسلاميين من الحكم، كما أنه رفض أصبح ممثلا في تيار مجتمعي واسع، لا يخفي غضبه على الاسلاميين، لا بسبب هويتهم الايديولجية فقط، بل أساسا بسبب الفشل في الحكم والحصيلة السلبية، التي آلت الى حالة انهيار شاملة في مختلف مناحي الحياة، جعلت من تونس على طريق “الدولة الفاشلة”.
الاسلاميون .. رفض مجتمعي
وهنا تجدر الاشارة، الى أنه تم تحميل الاسلاميين المسؤولية الأولى عن هذا الفشل الشامل، برغم تواصل تملص النهضويين وتشديدهم على أنهم لا يتحملون مسؤولية الحكم لوحدهم، وهنا لا يجب أن يغفل المتابع الحصيف، وجود تراجع كبير في شعبية التيار الاسلامي في المجتمع، على خلاف ما كان عليه خلال السنة الأولى للثورة.
برز التراجع في شعبية الاسلاميين، من خلال المواعيد الانتخابية، فبد أن صوت لهم أكثر من مليون ونصف ناخب في 2011 ، فقد تراجع العدد الى أقل من 500 ألف ناخب في 2019، فضلا عن عجز الحركة، على تصعيد مرشحها والشخصية الثانية في الحركة عبد الفتاح مورو، للدور الثاني لرئاسيات 2019
بعودة الانقسام السياسي بين الاسلاميين وخصومهم، لاحظنا حصول تحشيد ويقظة في علاقة ب “مقاومة” تمدد الاسلاميين في مؤسسات الدولة، ولعل هذا ما يفسر الرفض الكبير لتعيينات اسلاميين أو مقربين منهم في المناصب العليا للدولة. لتعود معه الاتهامات القديمة/الجديدة للحركة الاسلامية (حركة النهضة)، بأنها تعمل بالليل والنهار على “التمكين” لمشروعها السياسي، عبر مزيد التغلغل في مفاصل الدولة، فضلا على التخطط للبقاء في السلطة لسنوات بل عقود طويلة.
Comments