الهاشمي نويرة يكتب: في معنى الدخول إلى «التوافق» والخروج مِنهُ :مَنْ كَانَ في نِعْمَةٍ وَلَمْ يَشْكُرْ …
التونسيون-
عادت من جديد أجواء الإستقطاب الثّنائي بين «النّهضة» وباقي الطيف المجتمعي والسياسي والحزبي، وفي هذه المرّة كان قرارا «نهضاويّا» بامتياز إذْ قرّر هذا الحزب ـ أو لِنَقُلْ زعيم هذا الحزب ـ أنّ الوقت قد حان لاسترجاع زِمَام الحُكْمِ بالكاملِ وقَدَّرَ أنّ الظروف نضجت كَيْ يستقلَّ بذاته ويَفُكَّ الإرتباط مع رئيس الجمهوريّة ومع حزب «نداء تونس» شريكه في الحكومة .
زعيم حركة «النّهضة» قدّر هذه المرّة وقرّر وهو متّكِئٌ على رَافِدِ «الصّقور» في حزبه، وأغْفَلَ أو هو تغافل عن رَافِدِ «الحمائم» الذي كان في ما بَدَا لنا مُجرّد أداة هُدْنَةٍ وقد أَكْمَلَ دَورَهُ على الوَجْهِ المطلوب ليحلّ مكانه جناح «الحرب» لأنّه قرّر بلا شَكٍّ أن يخوض حرب الإستحواذ على السّلطة، وفي هذه الحرب كلّ شيء مباح، ومن ذلك التمكّن مِنْ مفاصل الدولة والإدارة، رَهْنُ الحكومة الى مشيئته ـ وهذه الأخيرة مُنْصَاعَةٌ بالكامل لأنّها لا ترى غير المِتْر المربّع الذي تقف عليه ـ تشتيت المشهد الحزبي والسياسي، احتواء القوى المجتمعية أو تهميش دورها أو تحييدها، البحث عن حلفاء المرحلة.
وهذا التمشّي الذي يبدو أنّ زعيم حركة «النّهضة» مُصِرٌّ على المُضيّ فيه قُدُمًا لا يحوز اجماعا داخل حركة «النهضة» بمختلف مؤسّساتها رَغْمَ ما يَتِمُّ التسويق له مِنْ تماسُكٍ ظاهري، كشفت عديد الوقائع عدم صحّته بالكامل، وكانت «واقعة» الرسالة المُوجّهَة الى الغنوشي والمنتقدة لسياساته ومواقفه الأخيرة خير دليل على ذلك، و«ما خَفِيَ كان أعْظَمَ» …
زعيم «النهضة» برّر مواقفه وسياساته بقراءة لعوامل موضوعيّة وبتطوّرات المواقف الوطنية والإقليمية والدولية من حركة «النّهضة» وقد بيّنت «الرّسالة» بأن التبريرات كانت واهية والقراءة كانت خاطئة أو هي غير صائبة، ونضيف نحن أنّ الأمر لا يتعلّق بنُضْجِ الظروف الموضوعية والذاتية للحُكْمِ المتفرّد أو المتفرّد «المُحَلَّى» بحلفاء حسب الطلب وإنّما هي رغبة «الزعيم» في الوصول الى قرطاج هي التي أَمْلَتِ القطيعة وفكّ الارتباط مع الرئيس ولا نريد الإستطراد أكثر حتّى لا نَصِلَ الى فكرة أن مُحرّك الموقف هو مصلحة «اخوانية» بحتة .. وهذا حديث يطول.
المُهمّ أنّ «النّهضة» التّي تفاجأت بالسّلطة في 2011 وفشلت في ممارستها وتركت الحكومة بالتدريج وبأخفّ الأضرار وأعطتها انتخابات 2014 مرتبة ثانية فرضت عليها التّراجع «خُطوةً الى الوراء»، ولكنّ إِسْعَافَهَا مِنْ طرف رئيس الجمهورية مكّنها ومكّن زعيمها بالخصوص مِنْ مخاطر العاصفة
إنّ «التّوافق» بين الرئيس الباجي قايد السّبسي ورئيس حركة «النهضة» ـ والذي مكّن مِنْ تركيز «شراكة» في الحكومة ـ رَبِحَ منه «الشيخ» وخَسِرَ الرّئيس وكان يُفْترض فيه أن يتخلّى زعيم «النهضة» تدريجيا عن عباءة الشّيخ ولكنّ الرئيس فشل في مسعاه، ونتيجة لذلك إنقطع حَبْلُ الوِدّ والتواصل في السياسة .. وبقيت «الصّداقة» !.
ربح «الشيخ» وربحت «النّهضة» مِنَ التوافق، أليس «التوافق» مع رئيس الجمهورية هو مَنْ وفّر غطاء آمِنًا «للنّهضة» ولشيخها على المستوى الوطني والدولي في وقت كانت درجة العدائية متصاعدة تجاه حركات «الإسلام السياسي» بعامّة ؟!
أليس «التوافق» هو مَنْ مَكَّن «النّهضة» مِنْ نَيْلِ كلّ مطالبها، فازدادت تمكُّنا من الحُكْمِ رغم وجودها «المحدود» في «صورة» حكومة الحبيب الصّيد قبل أن يستفحل هذا التَمكُّن في الحكومة اللاحقة بتحسين وجودها في «صورة» حكومة يوسف الشاهد الذي أغدق عليها هدايا لَمْ تحصل عليها حتّى في عهد «التّرويكا»، كان يُعطي لها بقَدْرِ ما يطلب مِنْ حماية ودَعْمٍ خصوصا بعدما قطع حَبْلَ الوِدِّ مع حزبه ورئيسه المؤسّس.
وكما يقول المثل الفرنسي «إنّ الشهيّةَ تَكْبُرُ مع الأَكْلِ» فإنّ سهولة نَيْل المطالب مع الشّاهد مقابل إنفرادها بدَعْمِهِ ـ إلاّ مَنْ شذَّ عَنِ الاجماع لأسباب غنائميّة أو «بهلوانية» ـ، هذه السّهولة غذّت الرغبة الجامحة في ممارسة السّلطة مِنْ خلال السيطرة على الرئاسات الثلاث بشكل مباشر أو غير مباشر مع تقدير ورغبة خاصّين لرئاسة الجمهورية وقصر قرطاج .. وكثيرا ما ينسى هؤلاء أنّ القَصْرَ يسمو أو ينحدر الى أسفل في ارتباط وثيق بطبيعة وسلوك و«كاريزما» مَنْ يسْكُنُهُ.
كانت «النّهضة» تحت غطاء «التوافق» تَأْخُذُ بلا حسابٍ ولا محاسبة، وباسم التوافق طُمِسَتْ عديدُ الحقائِق المرعبةِ ان كان ذلك إتّفاقًا أو مراعاة .. لقيم «الجوارِ» … وفي يومٍ قرّر زعيم «النّهضة» الرّجوع الى عباءة «الشّيخ» فبدأ عملية رِبْح الوقت لمزيد التأكّد من أن رئيس الجمهورية خسر كلّ أوراقه، وقد تكون قلّة الخبرة في العمل السياسي العلني وفي «الشّأن المدني» هي التي أوقعت «الشيخ» في المحظور، إذ غاب عنه أنّه خَسِرَ وإلى الأبد ورقةً رابحةً كانت بين يديه : رئيس الجمهوريّة، لأنّه قدّر أنّه أضحى مِنَ الماضي ونسي أنّ السياسة بخواتيمها وهي تكْسَبُ بالتفاصيل وبمراكمة الربح الصغير كمثل لعبة الورق الشعبية عندنا وإسمها «البَازْقة»…
الغنوشي استهوته الرئاسة وهذا حقّه الدستوري وهو يعي أنه لن يربحها، اذا خاضها مع أشباح وفي صحراء سياسية وحزبية قاحلة ولكنّه مرّة أخرى خانته أصوله الفكرية والايديولوجية.
ظهر في خطاب أسميناه بـ «الرّئاسي» فَهِمَ منه المواطن التونسي أنّ الرئيس القادم لتونس سيكون مرتديا عباءَةَ «الشّيخ» بكلّ تداعيات ذلك السياسية داخليا وخارجيّا..هو تخمّر الى حدّ نَسِيَ ما اكتسبه مِنْ «مدنية» بمناسبة توافقه مع الرئيس.
وفجأة «إنفتحت» أبواب جهنّم، وتعالت الأصوات من كلّ حَدْبٍ وصَوْبٍ مطالبة بكلّ ما كان محظورا زَمَنَ «التوافق» .. إرتبكت «النّهضة» وأصبحت سياستها ومواقفها «خَبْطًا عشواء» ودخلت في دوّامة مواجهة الجميع باستثناء مَنْ أغشى بصيرته الجهل السياسي والعناد وقلّة ذات اليد مِن المعرفة وقلّة المعروف، خسرت «النّهضة» ورقة الرئيس ولَمْ يَبْقَ أمامها سوى الكشف عن وجهها الحقيقي الذي هو جزءٌ من الحقيقة التي يريدها المواطن التونسي.
نقول «النّهضة» والواقع أنّه في الأثناء أصبح لجماعة «النّهضة» ما يخافون عليه، فَهُمْ غنموا مِنَ «الثورة» وغنموا مِنَ الحُكْمِ والسّؤال يبقى مطروحا : هل سينقادون بسُرعة وبدون أيّ شَكْلٍ مِنَ التصدّي وراء إرادة ورغبة «الزعيم» ؟!. سؤال يُطرح والإجابة عنه ليست سهلة لأنّ حَجم المصالح كبير والجماعة على غير استعداد ـ فيما يبدو ـ للعودة الى مربّع «الفَقْرِ» والإبتعاد عن السّلطة .. والأكيد أنّ شيخ النّهضة ينطبق عليه ذلك الكلام المأثور .. «مَنْ كان في نِعْمَةٍ ولَمْ يشْكُرْ، خرج منها ولَمْ يَشْعُرْ»..
إنّنا نكاد نرى من تعوّدنا على تصنيفهم بجماعة المحيط الضيّق للشيخ وقد أعوزتهم حِيَلُ تبرير المواقف والردّ على المواقف المضادّة والمعادية أحيانا .. نكاد نَراهُمْ في حالة عَجْزٍ نتيجة الحيرة التي استبدّت بهم .. نراهم متسمّرين في مكانهم ولسان حالهم يقول : «آشْ لَزْ العَاقِلُ لهذا»..هذا كلامٌ يُقالُ عن «النّهضة» وشيخها ولكنّه يستقيم طولا وعرضا عن أولئك الذين شقّوا عصا الطاعة مِمّن قذف بهم الى السياسة والى السلطة.
نسوق كلامنا هذا ولا نبرِّئُ الرئيس مِن أخطائه الأولى .. هو أسَرَّ لي ذات يوم فقال «إنّ ما يُمْكِنُ أن تفعله وتبنيه معي «النّهضة» لا يمكن أن تفعله مع غيري» وكان يتكلّم وهو شديد الإقتناع بأنّ شيخ «النّهضة» مُدْرِكٌ لهذا تماما .. كنت ابتسم في سِرّي لأنّ الرئيس لم يختبر «النّهضة» على المدى الطويل وهو بالتأكيد لا يريد أن يُدْرك ويقتنع أنّ شيخ «النّهضة» هو أخطر مَنْ يكثّف «فكر» «الإسلام السياسي» نشأة و«تطوّرا» ومستقبلا رغم يقيني ان هذا «الفكر» لا مستقبل له.
** أعيد نشر هذا المقال بالاتفاق مع الصديق والزميل الهاشمي نويرة، للإشارة فان المقال نشر في يومية “الصحافة اليوم”، عدد يوم السبت 3 نوفمبر 2018
Comments