الجديد

الولايات المتّحدة لن تعود إلى حقبة ما قبل “الترامبية”

شعبان العبيدي

ليس غريبا أن تشغل الانتخابات الرئاسية الأمريكية العالم وخاصّة العالم العربيّ، وذلك عائد إلى ما طبع الفترة التـــرامبيّة من خصوصية وتحدّيات تركت بصمتها على المجتمع الأمريكي والعالم. هذه النّزعة الترامبية التي يذهب كثير من المحللين الغربيين إلى أنّها ليست نتاجا جديدا وتــــــوجّها ابتدعه “دونــالد ترامب” بل هي إرث قديم متجدّد لسياسة الولايات المتحدة في العالم؟ لكنّنا نرى بعض السياسيين ممّــن عرفهم المشهد التونسي، والذي كان من المفروض أن تكون قراءاتهم للانتخابات الأمريكية و مآلاتهــا قائمة على المنطق الدّاخلي الذي يحرّكها، يذهبون إلى تحديد الانتظارات والـــــرّغبات الذاتية الحـزبية وأحيانا بعض أحلام اليقظة هو دليل على ضيق الرؤية من جهة ومن جهة أخرى بالنّسبة إلى من يرى في حلول “جون بايدن” بالبيت الأبيض مبرّرا للتشفي والتهجّم على الدّول والشعوب العربية تحت شعار شعبويّ يضعها في خانة أعداء تونس والأمّة العربيّة.

لذلك نريد أن نبيّن أنّ الانتخابات الأمريكية وما رافقها من مناظرة بين الرئيسين ومن حملة انتخابية غير مسبوقة ومن إقدام لا مثيل له على صناديق الاقتراع درس للشّعوب وللمدافعين عن ترسيخ الديمقراطية.

وبغضّ النّظر عمّن ستمنحه صناديق الاقتراع والمجلـس الانتخابي جواز العبـــور إلى رئاسة الـــولايات المتّحدة لأربع سنوات قادمة، وإن كانت الدّلائل كلّها تشير إلى تقــــدّم الديمقراطي “جون بايـــدن” بخطى حثيثة نحو الرئاسة، فإنّ سياسة الولايات المتحدة التي يسطّرها الكونغرس وهو السّلطة العليا في البــــلاد والجهاز التشريعي بمجلسيه: مجلس الشيوخ ومجلس النواب. وخاصّة مجلس الشيـــــــوخ الذي يسطّـــــر السياسة الخارجية. وبالتالي فإنّ تغيّر سياسة الولايات المتّحدة في منطقة الشـــــــــرق الأوسط وفي العالم بالعودة إلى ما مرحلة ما قبل التــــرامبية هو من باب الأحلام. بقي أنّه يمكن أن يكون الديمقراطي الجديد أكثر هدوء وديبلوماسية وانتصارا لحقوق الإنسان والحريّات تناغما مع مرجعية الحزب. ولكن يبقى ذلك داخلا في أسلوب السياسة النّاعمة، لأنّ الدّيمقراطية الأمريكيّة والغربيّة اليوم هي ديمقراطية براغماتية لها أوجه قذرة ولكنّها شرعيّة عند ساستها.

ثالثا لقد تغيّر المشهد السياسي الأمريكي الدّاخلي بفعل الترامبية الجديدة من حيث عودة النزعة القــــومية بقوّة والبراغماتية الترامبية القائمة على فعل كلّ شيء مهما كان ولو التضحية بالشعوب من أجـــل ريادة الاقتصاد الأمريكي وتنويع  مصادر الثروة وغلق أبواب الإنفاق الخارجي والمساعدات. وهو ما عـــــزّز موقف ترامب ووسّع قاعدته الانتخابية، حتّى في الأقليات والسّود رغم اتهامه بالعنصرية. ومعنى ذلك أن هناك اتجاه جديد نمّته الترامبية هو المصلحة الأمريكية ومصلحة الأمريكيين. وستبقى التـــــــرامبية تلهم السياسيين القادمين للولايات المتحدة مثلما ألهم البيان الشيوعي الكثير من الــــــــدّول. لذلك سيتعيّن على “جون بايدن” التعامل مع هذه القوّة التحويلية التي خلقها ترامب، وهو ما ظهر فعــــــلا حتّى فــي حملته الانتخابية إذ جرّه ترامب إلى التركيز على قضايا العمّال ذوي البدلات الزرقاء ومخـــاوفهم الاقتصـادية والاجتماعية، كما أنّه سيتعيّن عليه التعامل مع حزب جمهوري مشبع بالترامبيّة التي أعـــادت صيــاغته وتوسيع شعبيته.

كما أنّ الانتخابات الجديدة كشفت عمق الصّراع في الولايات المتحدة الــــذي تتداخل فيه عدّة عـــوامل جغرافية حيث يأتي غالبية منتخبي ترامب من الأرياف والمدن الصغيرة التي هي تحت سيــــادة البيض الذين يعتبرون أنفسهم أسياد البلاد في حين يأتي ناخبو الدّيمقراطي “بايدن” من المدن الكبرى أين تغلب نزعة المواطنة. وثقافيا بين نزعة قومية تؤمن بسيادة أمريكا للعالم وتجد صدى كبيرا أحياه ترامب وبين نزعة ديمقراطية تؤمن بنفس المبدإ ولكنّها تحاول المحافظة على دعم الحريّات، وعقائديا بين المحافظين والتقدميين. وهذا ما يجعل الانتخابات الأمريكية وما عرفته من إقبال لـــــم تشهده سابقا دليلا على أنّها معركة ثقافية و هووية واقتصادية تقودها مصلحة أمريكا ومصالح الأمريكيين.

فالقضايا المطروحة اليوم من خلال ما ستفرزه صناديق الاقتراع هي الأساس الذي سيحدّد سياسة الرئيس الجديد، وهي مستقبل أمريكا وكيفية خروجها من أزمتي الوباء والانكماش الاقتصـــادي، ولذلك لن يتردّد الرئيس الجديد ما بعد الترامبية في شطب أي بلد أو قضية مالم تكن فيها لأمريكا مصلحة وللوبي المتحكم في الكونغرس وهو اليمين المحافظ الذي يوجد في واقع الأمر في الحزبين والمتحــــالفين معهما في دفـع مشروع الترامبية إلى أقصاه بأساليب جديدة وإغراءات أخرى. فالحزبان يقاتلان من أجل قضية واحـــدة

إنّ ما خلقته الترامبية من ثقل سياسي للولايات المتحدّة وجرأة في التعامل مع القضايا الوطنية والعالمية قد غيّرت السياسة الأمريكية والمشهد السياسي الــــــدّاخلي وكذلك الحزب الجمهوري الذي أصبــح أكثر تماسكا وقوّة في عهده. وهو الذي سبّب هذا الاستقطاب القــــويّ الذي لم تعرفه البلاد. فأي كان الرئيس الجديد فسيكون تطويرا واستمراية للترامبية في أسلوب جديد بعد ما أفقدتها الانتخابات الأخيرة طــريقة ترامب في الخطاب.

وإذا غادر “دونالد ترامب” البيت الأبيض فقد ترك البلاد في حالة انقسام، مهدّدة بالاضطرابات الشديدة ومزيد الانقسام، وهو إلى هذه اللّحظة لم يتقبّل خروجه، ويساهم بتغريداته عبر وسائل التواصل في اتّهام الدّيمقراطيين ومراكز الفرز بتزييف الانتخابات. فإنّه الرّئيس الوحيد الذي استطاع أن يحــــــوّل وسائل التواصل المختلفة ليجعلها في خدمته وساعدته على تحدّي النّخب المؤسّسات، فقد غيّر من صورة حزبه الذي لم يعد حزبا للبيض المحافظين بعد أن أخرجه “ترامب” من خطّــــــــه المعتدل إلى النّزعة القوميّة والمصلحة الأمريكية حزبا منفتحا على السّود والأقليات يتبنّى الترامبية ويترجم عن توجّه سياسيّ جديد.

ليهنأ الذين يترقبون حلولا تأتيهم وتأتي أحزابهم لدعمها من وراء البحار، فإذا هم يمنّون النّفس بأنّ ذهاب الرئيس المقلق “دونالد ترامب” والذي تحدّى العرب بصفقة القرن وقطع فيها أشواطا لـــــن يقع التراجع عنها، أو بدفع الحكام العرب إلى التطبيع القسري مع إسرائيل. فإنّ الرئيس الجديد لن يعــود أدراجه في هذا الشأن بل سيطوّر التــــــرامبية خاصّة في ملفّ الإرهاب الذي يضرب أوروبا أخيرا وملفّ الهجرة والعلاقات الخارجية. كما أنّه من المؤسف أن يخرج الدكتور منصف المرزوقي الذي نكنّ له كلّ احترام بتدوينة غريبة قائمة على التشفّي من دول عربية وأنظمتها معزّيا إيّاها بذهاب ترامب والشعوبية. وهــــو موقف فيه تدخّل في شؤون هذه البلدان وخلق لمزيد من العداء بين تونس وبين البلدان العربية الأخرى.

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP