انتخابات المحامين: مشاغل المحامين أولا .. والسياسة الحاضر الغائب
المهدي عبد الجواد
انتهت منذ اسبوع تقريبا انتخابات هيئات المحامين الوطنية والفروع الجهوية، وآلت العمادة إلى الاستاذ حاتم المزيو الذي فاز بها على منافسه في الدور الثاني الاستاذ بوبكر بن ثابت. ويعكس الاهتمام الكبير – لدى النخب والاحزاب السياسية- بانتخابات المحامين ما يتمتع به هذا القطاع “المناضل” من منزلة كبرى.
وهي أهمية اكتسبها القطاع بالنظر لتاريخ المحاماة الطويل في البلاد وحضورها الدائم في مختلف المعارك والمحطات السياسية والحقوقية في تاريخ تونس الحديث والمعاصر، فضلا على الدور المحوري الذي قام به محامون في قيادة البلاد من مواقع مختلفة.
انتخابات .. الاستقطابات المعقّدة
جرت هذه الانتخابات -مثل غيرها- في ظل استقطاب سياسي حاد ومُركّب، فأغلب معارضي قيس سعيد ومسار 25 جويلية يفضلون أن يكون الفائزون في انتخابات المحامين معارضين لما يطلق عليه قطاع من المعارضة ب”الانقلاب”، أما أنصار الرئيس فيُفضّلون فائزا “مواليا” أو “محايدا” في أفضل الحالات.
كما أن الاستقطابات السياسية بل الأيديولوجية بين التيارات التقليدية في المحاماة كانت ايضا حاضرة، إذ أن المحاماة التونسية كانت دوما ساحة صراع حاد بين التيارات اليسارية والقومية وتيار الاسلام السياسي والدساترة / التجمعيين.
ورغم كل هذه العوامل فإن الإنتخابات في المحاماة تخضع منذ مدة طويلة إلى حسابات معقدة أخرى تؤثّر على معايير التصويت، أهمها ما بات يُعرف منذ مدّة ب”التيار المهني” وهو الذي “يدّعي” الاستقلالية على “التيارات السياسية وصراعاتها” ويهتم بالوضع المادي والمعنوي والمهني للمحامين الذي يتردى كل يوم أكثر منذ سنوات. ويجد هذا التيار قوّة بسبب الوضعية الهشّة لشريحة واسعة من المحامين وخاصة الشبان منهم.
اذن بين استقطاب سياسي يستحضر “الموالين لقيس وخصومه” وآخر ايديولوجي يستحضر “معارك تاريخ التيارات السياسية” هناك استقطاب ثالث يقوم على “الخط المهني البراغماتي”. وفوز الاستاذ حاتم المزيو ترجم ولو جزئيا هذا الصراع في ابعاده الثلاث.
فالعميد الجديد كان هو الكاتب العام في الهيئة المتخلية، هيئة لم يخف عميدها الاستاذ ابراهيم بودربالة دعمه الشديد للرئيس واجراءاته بل وتحوّل بفعل حماسته المفرطة في دعم “مسار 25” إلى ناطق رسمي باسمه، ولا نعتقد أن موقف العميد المتخلي كان دون موافقة باقي أعضاء الهيئة، أو دون كاتبها العام على الاقل، وهو الذي يُصدر البيانات ويتابع أعمال الهيئة، ونحن نعتقد أن العميد الجديد سيُواصل سياسة سلفه، وحتى إن عدّل قليلا فإنه وفي أقصى الحالات لن يكون معارضا له.
و العميد الجديد ايضا غير “منتم” للتيارات الأيديولوجية الناشطة في المحاماة، وإن تحدث البعض على كونه لم يكن بعيدا على “محامي التجمع” قبل الثورة، ولكن الاستاذ المزيو جمع حوله انصارا من اليسار والتجمعيين وحتى بعض القوميين الذين يشتركون في أغلبهم في مساندة مسار الرئيس سعيد. وحظي العميد المنتخب ايضا بإسناد واسع من “المحامين المهنيين” الباحثين على تقديم قضايا المعيشة والمهنة على غيرها.
الاستقطابات السياسية بل الأيديولوجية بين التيارات التقليدية في المحاماة كانت ايضا حاضرة، إذ أن المحاماة التونسية كانت دوما ساحة صراع حاد بين التيارات اليسارية والقومية وتيار الاسلام السياسي والدساترة / التجمعيين.
المحاماة .. صورة لما يحدث في البلاد
يبلغ عدد المحامين المسجلين في العمادة حوالي 9000 محامي شارك منهم في الدور الثاني حوالي ثلاث آلاف محام، وهي أرقام دالة تقريبا على نفس النسب الوطنية في الانتخابات من تسعة ملايين يذهب ثلاثة ملايين للصندوق، بمعنى أن ظاهرة العزوف هي ظاهرة عامة في تونس وتمسّ حتى قطاعات نخبوية شديدة التسييس.
كما أن غلبة التيار المهني والخطاب المعيشي على المحاماة وتراجع “السياسي” دال ايضا على ما يجب أن تقوم به الأحزاب والتشكيلات السياسية على مستوى وطني.
فقد هجر الناس “ساحة الفعل العام” نتيجة ضجرهم من الخطابات السياسية والصراعات الأيديولوجية، مقابل اهتمامهم الشديد بقضايا المقدرة الشرائية والغلاء والفقر ونقص المواد الغذائية والادوية والتلوث والامن.
ومثلما تشهد ساحة المحاماة تحولات عميقة، فإن الساحة الوطنية تعيش ذلك ايضا، حيث انتهت مرحلة الشعارات الكبيرة والخطابات الاقصائية مقابل حضور طاغ للغة “المصالح” في ابعادها المختلفة.
غلبة التيار المهني والخطاب المعيشي على المحاماة وتراجع “السياسي” دال ايضا على ما يجب أن تقوم به الأحزاب والتشكيلات السياسية على مستوى وطني. فقد هجر الناس “ساحة الفعل العام” نتيجة ضجرهم من الخطابات السياسية والصراعات الأيديولوجية، مقابل اهتمامهم الشديد بقضايا المقدرة الشرائية والغلاء والفقر ونقص المواد الغذائية والادوية والتلوث والامن.
مجلس متوازن .. وعميد مهيمن
ما إن انتهت انتخابات العميد، حتى نقُص الاهتمام بانتخابات الهيئة الوطنية وانتخابات رؤساء الفروع واعضائها. وتٌشير الاخبار الواردة من المحامين أن توازن القوى في عضوية الهيئة مازال سائدا، بين العميد وحُلفائه من جهة وخصوم الرئيس ومعارضيه من جهة ثانية. وفي ذلك دلالة على كون المنظمات والهيئات الوطنية والمهنية المختلفة هي “مؤسسات الرئيس أو الأمين العام أو العميد” فهو “الحاكم” يفرض سياساته واختياراته.
بقي ان الاصرار على تنظيم انتخابات المحامين حضوريا مدة ثلاث ايام بلياليها في تونس العاصمة، مع ما يعنيه ذلك من مشقة تنقل وسكن لألاف المحامين يبقى مسألة لابد من مراجعتها.
ونستغرب كيف أن قطاعا طلائعيا وعصريا ومنظما مثل المحاماة لم يعتمد حتى اللحظة التصويت الالكتروني، وهو إجراء سهل تقنيا وغير مكلف ماديا، وسيكون في حال اتخاذه دفعا لاعتماده في قطاعات ومنظمات أخرى ولم لا في الانتخابات الوطنية.
Comments