ايران: هل تدقّ الكورونا الإسفين الأخير في نعش نظام الملالي؟
شعبان العبيدي
يكشف التاريخ البشري على وجه البسيطة ألوانا من الجوائح والكوارث والأوبئة الّتي عصفت بالحضارة الإنسانية، وكلّما خطا الإنسان خطوة صعودا نحو السّيطرة على الطبيعة، والارتقاء في مراتب التقدّم والسيطرة على الوجود من حوله وتطويعه لغاياته كلّما عصفت الأقدار بين الفينة والأخرى بكثير من أحلامه وذكّرته بضآلة حجمه ونسبية معرفته، ولكنّ البشرية ظلت رغم كلّ ما نزل بها من أوبئة وحروب تعيد البناء والمقاومة والنّهوض من جديد في معركة سيزيفية مجلّلة بمعاني الملحمة والمأساة.
وليس هذا الوباء الذي ضرب العالم اليوم وهزّه هزّا، وسرى يجتاح الحدود الجغرافية، بعد أن مهّدت له العولمة الطريق لمّا حوّلت العالم بجزره إلى قرية واحدة تتنفّس الثقافة نفسها. ورغم ما رافق هذا الوباء من ضجيج إعلاميّ وتهويل غزا أجهزة التواصل والاتّصال والصّحف وأحاديث الجلسات الأسرية، وربّما ذلك عائد إلى هول الصدمة وارتفاع عدد الموتى رحمهم اللّه جميعا، أو هو كما يرى البعض هو تجارة إعلامية تمهّد لمرحلة جديدة تستفيد منها الدّول المتحكمة في اقتصاديات العالم.
لكن مع ذلك تبقى مخلّفات الوباء في إيطاليا وإيران خاصّة دامية محزنة، باعثة على الأسى والذّعر والرّهبة من الأسوأ خصوصا إذا طال أمد هذا الوباء واستفحل، كانت له آثار مخيفة ومقلقة اجتماعيا واقتصاديا خاصّة على البلدان الفقيرة و الفاقدة لركائز اقتصادية قويّة قادرة على تحمّل رعاية المواطنين مع توقف العمل والإنتاج و التبادل التجاري، في عالم باتت فيه شبكة الاقتصاد شبيهة ببيت العنكبوت في تداخلها ورهافتها. فكيف سيكون الحال حين يرفع هذا الوباء؟
لا شكّ للمتابع لوضعية الدّولة الإسلامية الإيرانية أن يُصدم لهول انتشار فيروس كورونا، وكيفية تعامل السّلطة الحاكمة معه في البداية من منطلق التغطية على الحقائق واللامبالاة. مادامت سلطة الفقيه المدعومة بأجهزتها وأجنحتها العسكرية موجّهة اهتمامها نحو حربها القديمة ضدّ “الشيطان الأكبر” وما حدث بين الخصمين أخيرا من تبادل للمواجهة العسكرية على الأرض العراقية.
لتخرج السلطة الإيرانية أخيرا عن صمتها بعد أن استفحل أمر الوباء وضرب ضرباته المزلزلة في العاصمة الرمزية، مدينة قم الرمز الرّوحيّ لولاية الفقيه. وها هو الفيروس يحصد إلى اليوم أرواح قرابة 700 ضحية وقرابة 14 ألفا من الإصابات. فلماذا وصل الأمر إلى هذا الحدّ خاصّة وأنّ بداية انطلاق الوباء أطلقت صفّارة إنذار لبقية دول العالم للاستعداد؟ هل هو نتاج إهمال سياسيّ أم هو نتاج طبيعي لواقع الحصار ووضعية البلاد المأزومة وهي الّتي تعيش حربا مفتوحة مع الولايات المتحدة منذ عودة مرشد الثورة إلى اليوم؟
لمّا انتصرت الثّورة الإيرانية في أواخر الثمانينات، هلّلنا لها كثيرا، واستبشرنا خاصّة بعد قراءتنا لكتابات منظريها مثل على شريعتي بظهور قطب جديد بين قطبي الحرب الباردة أنداك، وكان تهليلا غبيّا مرتبطا بفورة الشباب، ووجد أرضيته لدينا في قراءاتنا للكتابات متنوّعة الرّوافد من الماركسية إلى الإسلام اليساري إلى الرؤى الإصلاحية خاصّة كتابات مالك بن نبيّ.
ولكنّ أبناء الثورة الإيرانية لم يهنؤوا بالفرح وجني ثمار الثورة بعد أن فرضت عليهم معركة أولى مع الولايات المتّحدة ثم الحرب العراقية التي دامت 8 سنوات. ولم يرسّخ أية اللّه الخميني الجنّة الموعودة الّتي وعد بها مناصريه بل كرّس نظاما قمعيا يحتكم لولاية الفقيه، ويعمل على تصدير الثورة الإيرانية وتوطين المذهب الشيعيّ الإثنا عشري. باعتبارها عنده عقيدة خلاص إنساني، استطاع أن يطوّع لها كلّ القوى بحدّ السيف، وذلك حين سيطر على البازار.
وجعل نظامه هذا في مواجهة الإمبريالية الغربية، والعالم الرّأسمالي المجنون الذي بسط سلطته على العالم بعد سقوط القطب الشيوعي. وفي الوقت الذي كان فيه النّظام الرأسمالي المعولم يقدّم مفاهيمه للرّفاه والرّبح والفردية من منطلق مادّي معيشيّ، كان نظام ولاية الفقيه يقدّم المفاهيم نفسها من منطلق خرافي غيبي، وأدّى كلاهما إلى النّتيجة نفسها وهي الإحباط واليأس.
وازداد ضعف النّظام الإيراني مع آية اللّه خامنئي الذي لم يتمتع بنفس القيمة الاعتبارية لدى الإيرانيين. وواصل في ظلّ حكومات متعاقبة سياسة العداء مع أمريكا، بل وكسب عداوات مع محيطه العربي وجيرانه، واستنزف ثروات الشعب الإيراني في بناء أذرع له في سوريا ولبنان واليمن بل وحتّى في إفريقيا من أجل بث المذهب الاثنا عشري.
وفي الأثناء تواصلت معاناة الشعب الإيراني، ومن الأكيد أنّ أثر وسائل الاتّصال والتّطور الإعلامي رغم الرقابة القوية أحدث تغييرا في المجتمع الإيراني وخاصّة لدى فئة الشباب، نجم عن ذلك تغيّرات وتحوّلات تجّلت في الإنتاج الفني والأدبي والسينمائي الذي أبهر العالم، وفي الثورات المتلاحقة من أجل الحرّيات والوضعية الاجتماعية، وتوسّعت المعارضة اليوم، خاصّة بما وجدته من دعم خارجي.
رغم هذه الأزمة الخانقة التي قاد لها نظام الملالي شعبه اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودوليّا، ومظاهرها بارزة في انتشار البطالة والإدمان والفقر، بقي ساسة إيران يسعون إلى إفراغ شحنات الغضب والرّفض لنظام الحكم وتوجيهها إلى عدّو خارجي هو رمز الشرّ المطلق عندهم، وهم يردّدون نفس الشعار كما ردّدته الأنظمة الشمولية الماركسية في كوريا الشمالية وكوبا: لا بدّ من التّضحية لأنّ الخير آت وكلّ شيء سيتحسّن.
وهو ما يصدق عليه المثل الذي يورده “جيجيك”( زار شيوعيّ ذات مرّة فرويد وقال له: علينا أوّلا أن نعاني الكثير، وبعد ذلك سنحصل على الجنّة. فقال له فرويد: حسنا أنا أصدّق الجزء الأوّل من تأكيدك، لكن ليس الجزء الثاني) وهو نفس الردّ الذي بات يقوله المواطن الإيراني لنظام ولاية الفقيه المغرق في البوهيمية.
لقد حرم نظام ولاية الفقيه شعبه من فرص الرّفاه والأمن والدّيمقراطية، وحكم عليه أن يظل محكوما عليه بالدّمار والحروب والموت والفناء. ولعلّ التّراخي في مواجهة الوباء ونقص المواد الطبيّة ستكون تكلفته باهضة على النظام .
ومثلما ترك النظام أبناء شعبه للموت، فإنّ هذه الجائحة الّتي ستغيّر العالم لامحالة، وحتّى النّظام العالمي، لأنّ البؤساء سيقتصّون لأنفسهم من دولهم وديمقراطياتهم والنّظام العالمي، كذلك بتوقع أن تعصف الكورونا بنظام ولاية الفقيه.
Comments