بجرّة قلم .. لماذا نرفض الخروج من الصراع الايديولوجي؟
د.خالد شوكات
تابعت بكل اهتمام النشاط السياسي والإعلامي الحثيث للفاضل عبد الكافي الوزير السابق ورئيس حزب آفاق الجديد والخبير المرموق في مجالات المالية والاقتصاد والاستثمار، خلال الاسابيع الاخيرة.
لعلّها المرّة الأولى التي سأكشف فيها عن مبادرة سياسية كنت قد تقدمت بها لعدد من الاحزاب الفائزة في انتخابات 2019، وفيّ مقدمتها حركة النهضة وقلب تونس، ورشحت فيها الفاضل لرئاسة حكومة ائتلافية ذات توجه اصلاحي ليبرالي اجتماعي، لإيماني بأن ديمقراطيتنا الناشئة بحاجة إلى حركة تنموية سريعة وشاملة تنقذها وتفتح أمامها آفاقاً وآمالا بعد ان غرق المشهد العام في موجات حزن وكآبة ويأس متلاحقة متواصلة، ودون رجّة إيجابية ناتجة عن حركيّة اقتصادية متنوعة وفاعلة فسنواصل كما اعتقد، السير نحو الكارثة التي لا نعلم متى ستبلغ قمِتها لتنفجر قنبلتها الناسفة في وجوهنا جميعاً.
للأسف الشديد، وبدل أن تجد هذه المبادرة المبدئية البرغماتية آذانا صاغية، اذ كان بالمقدور تشكيل ائتلاف حكومي على قاعدة وطنية اصلاحية ديمقراطية محافظة ذات مضمون ليبرالي اجتماعي، بقيادة سياسي اقتصادي شاب كالفاضل عبد الكافي، انتصرت “الايديولوجيا” على “البرامجية” وذهبنا في مغامرة بلا معنى او فائدة بتكليف رجل طيب لكنّهُ مغمور وبلا خبرة تنموية واضحة كالحليب الجملي، ثم أردفناها بمغامرة ثانية من خلال تكليف رجل خسر بمعية حزبه الانتخابات هو الياس الفخفاخ، فضلا عن مرجعية شعبوية طهورية مبالغ فيها لبعض الاحزاب المؤتلفة معه.
قبل ان نبلغ ذروة الفشل على مستوى الخيال والرؤية للخروج من الأزمة عندما أحلنا الشأن الحكومي برمته ومستقبل الديمقراطية المحفوف بالمخاطر لحكومة تكنوقراط غاية ما يمكن ان تحققه التخفيف من حدة الكارثة وربما تأجيلها بضعة أشهر أخرى، ولست أدري لماذا نختار غالبا حرمان بلدنا دائما من فرصة لاقتران الديمقراطية بالتنمية. فاجأني لاحقا اختيار الفاضل حزب آفاق، للقطع مع استقلاليته السياسية والتبشير بمشروعه في النهوض والتقدم، ذلك انني كنتُ اراه ضمن الاحتياطي الاستراتيجي لجبهة سياسية واسعة يمكن ان تتشكل على قاعدة وطنية محافظة وديمقراطية ذات مشروع تنموي اصلاحي ليبرالي اجتماعي، لكنني احترم تقديره للامور على أية حال، تقديري لحزب آفاق نفسه، الذي يمثل تجربة حزبية عصرية واعدة رغم ملاحظاتي النقدية لمرجعيته الفكرية، واساساً ما يتصل منها بموضوع الهوية العربية الاسلامية لبلادنا.
ولربما نجح الفاضل في احداث المراجعات الضرورية لتقريبه من الوسطية في كل شيء، وتبدو إشارته المتكررة لزعيم النهضة الماليزية الرائدة مهاتير محمد ما يشجع على القيام بهذا الامر، فمهاتير خير نموذج يحتذى في مجال التوفيق بين الاصالة والمعاصرة. إِلَّا ان ما أردت معالجته في هذه المقالة، رؤية الفاضل للسبيل الكفيل بإخراج تونس وديمقراطيتها الفتّية من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتدوير عجلة التنمية، والتي أوجزها في عبارة “بجرّة قلم”، ومفادها ان توفر قيادة قوية ذات إرادة سياسية واضحة قادرة من خلال اتخاذها إجراءات سريعة فاعلة وتبني قوانين تقدّمية ناجعة، بمقدورها ان تقلب المعادلة وان تجد حلولا قابلة للتطبيق لهذه المشكلات التي بدت وكأنها غير قابلة للحل ومصدر تثبيط للعزائم واحباط لذوي النوايا الحسنة.
وما هو ثابت فيما تحدث عنه الفاضل وغيره، أن لتونس مشكلتان، الاولى معنوية بأن نستمع للأصوات الايجابية بدل تلك الناعقة، وان نستثمر في الامل بدل اليأس، والثانية مادية بأن نجد حلّا للموارد المالية المفقودة من خلال تثمين المخزون العقاري واللوجستي والطبيعي والتاريخي والجغرافي والثقافي الذي تمتلكه بلادنا. لكن المشكل الكبير الذي يعيق فهم عبارة “بجرة قلم” على نحو صحيح وسليم فيما يبدو، مردّه امران أساسيان، الأول هو تمكّن “الايديولوجيا” المرضي من عقلنا السياسي، فنحن شعوب مشدودة لخطابات الحقائق المطلقة، سماوية كانت او ارضية، والمزايدات الكلامية والتكفير والتخوين وسواها من المقاربات الفكرية والسياسية المختلة، والثاني هو اعلام الإثارة والتفاهة والرداءة والتشكيك والتثبيط، القادر على تحويل اكثر المشاريع والخطابات جدّية وواقعية واقتراباً من الحل الى موضوع للسخرية والاستهزاء و”قلِة المعروف”، وهكذا يجد الفاضل وامثاله ممن يريدون الانتقال بالفضاء العام من كونه حلبة لصراع الديكة إلى طاولة لحوار جدي وراق حول الافكار والبرامج ذات الصلة بمشاكل التونسيين الحقيقية،
أمام أوضاع غير لائقة، ان لم يكونوا محصنين نفسيا ضدها ستدفعهم حتما الى العودة الى مواقعهم الشخصية الامنة والمريحة من حيث جاءوا، بدل مساهمتهم في إصلاح بلادهم وتقويم أحوالها والمساهمة في نهوضها من عثرتها.
يجب أن نتعاون جميعا على إنقاذ السفينة الوطنية بالخروج بها من مستنقع عدمية النقاش الايديولوجي الى بحر البرامج التنموية، وهو ما يتطلب عنادا فكريا وسياسيا لا يتوفر الا عند أؤلئك الذين يتوفرون فعلاً على كفاءة وقدرة على الإبداع البرامجي، فيما لدينا من اهل الكسل والمزايدات الأيديولوجية غالبية لا تريد التغيير وان رفعت شعارات تقدّمية، وتلك هي المفارقة.
Comments