بعد المؤتمر .. الاتحاد في مواجهة تحدّيات كبيرة
المهدي عبد الجواد
انتهت أشغال المؤتمر الخامس والعشرين للاتحاد العام التونسي للشغل بانتخاب قيادة شبه/شبه. فقد كانت مُناصفة بين أعضاء من المكتب التنفيذي السابق وأعضاء جُدُد، وتمّ للمرة الأولى انتخاب سيدتين في قيادة كبرى المنظمات الوطنية، فضلا على تمثيلية بدت أكثر تغطية لقطاعات وازنة كالصحة والمعادن وجهات مهمة كبنزرت والمهدية. ولئن تمّ إنجاز المهمّ أي المؤتمر، فإن الأهم مازال مطروحَا، إذ تنتظر القيادة الجديدة وعلى رأسها الأمين العام السيد نورالدين الطبوبي تحديات كبيرة، لا تقلّ أهمية على إنجاز المؤتمر نفسه.
ترميم الوحدة النقابية… التحدي العاجل
شهدت الساحة النقابية جدلا كبيرا قبل المؤتمر بخصوص ما عُرف بمراجعة الفصل عشرين من النظام الداخلي للمنظمة، والمتعلق بتحديد الحق في الترشح لعضوية المكتب التنفيذي بنيابتين غير قابلتين للتجديد. وبعد مدّ وجزر ونقاشات حادة، بلغت حدّ التحريض على قيادة المنظمة ونشر عرائض إدانة وتهديد بمقاطعة المؤتمر، ذهب بعض النقابيين للطعن في قرارات المؤتمر الاستثنائي والمجلس الوطني لدى القضاء. وتزعّم بعض النقابيين المعروفين هذا التوجه لعل منهم من كان من أعضاء المكتب التنفيذي نفسه.
فلئن اختارت بعض القيادات الانسحاب في صمت لأسباب مختلفة، فإن السيد محمد علي البوغديري الذي كان المرشح الأول لقيادة المنظمة في صورة بقاء العمل بالفصل عشرين اختار تكوين جبهة نقابية معارضة، إنضم اليها لسعد اليعقوبي أكثر النقابيين إثارة للجدل بفعل الأداء “المثير للقلق” في نقابة التعليم الثانوي، فضلا على قاسم عيفية الذي كان على رأس قائمة المنافسين في المؤتمر الفارط لقائمة الطبوبي.
وشهد المؤتمر الحالي ايضا بعض التوتر، فقد اشتكى السيد البوغديري من مضايقات تعرّض لها معارضو المؤتمر، وهو ما دفعه في مداخلة حادة أمام المؤتمرين إلى اعلان نهاية النظام الداخلي للمنظمة والقى به ارضا وسط صيحات الاستهجان وحتى الترحيب.
وككلّ المؤتمرات في كافة المنظمات والأحزاب فإن جراحا وغضبا وعدم رضى بالنتائج يسود شرائح هامة من المنخرطين، وهو الحال الذي يعيشه الاتحاد بعد مؤتمره، فثمة نقابيون وقطاعات وجهات وقيادات قطاعية وجهوية تشعر ببعض الاستياء، وعلى قيادة المنظمة وخاصة الأمين العام العمل على احتواء هذا “التململ” في أسرع الأوقات. فالوحدة النقابية كانت دوما مبدأ أساسيا لاتحاد الشغل وهو ما مكّنه من الحفاظ على استقلاليته وقوته، ودوره الوطني. ونحن نعتقد أن منظمة حشّاد مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بفتح الأبواب وقنوات التواصل مع “جبهة المعارضين” لان الاتحاد يحتاج كل أبنائه، في مرحلة مفصلية ليست في تاريخه بل في تاريخ البلاد.
الانقاذ الوطني…التحدي الأهم
منذ تأسيسه قبل أكثر من سبعين عاما، كان الاتحاد منغرسا هوية وسلوكا وسياسات في الشأن الوطني بأبعاده المختلفة. وكان دور الاتحاد محوريا في التحرّر الوطني والاجتماعي وفي الازدهار والرفاه ومعارك الحريات والديمقراطية. واليوم تزداد الحاجة إلى الاتحاد ليس للمساهمة في عمليات الانقاذ فقط، بل في إيجاد مخارج ناعمة لحال الانقسام المجتمعي والقطيعة السياسية التي تهيمن على المشهد العام بتونس.
لقد حذّرت القيادة النقابية منذ مدة طويلة من النتائج الخطيرة للعبث السياسي الذي كان سائدا، وأكد الأمين العام في أكثر من مناسبة أن اتحاد الشغل لن يسكت على إهدار المقدرات الوطنية في الصراعات السياسية الصبيانية، وأنه لن يرضى برهن مستقبل البلاد لدى “نخبة سياسية فاسدة” وأن الفوضى والافلاس وانهيار الدولة خطر داهم يندّد الجميع.
ولذلك بادر الاتحاد منذ أكثر من سنة بطرح مبادرة وطنية، كان الهدفُ منها دفع “السياسيين” والفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين من سياسيين إلى الجلوس على طاولة الحوار، لتشخيص أمراض البلاد والخروج بحلول عاجلة تكون فاتحة مسيرة الانقاذ الوطني. واحتوت مبادرة الاتحاد التي تقدم بها إلى رئيس الجمهورية، قبل أن يعرضها على باقي “الأطراف” على محاور سياسية واقتصادية واجتماعية، ونعتقدُ انها ماتزال راهنة.
الاصلاحات الكبرى… تحدي المستقبل
تكرّرت منذ فترة طويلة الدعوات إلى إنجاز الاصلاحات الكبرى، ورغم تعدّد جلسات التفاوض واللقاءات وإصدار الكتب والتقارير، فإن لا شيئ يستحق الذكر تم انجازه، بل إن الشركاء الدوليين صاروا على قناعة بكون الحكومات المتعاقبة كانت “تتحيّل” وترفض تحقيق الاصلاحات، وكون أحد العوامل الرئيسية هو موقف اتحاد الشغل من بعضها.
لقد برّرت بعض الحكومات عدم الاصلاح بموقف اتحاد الشغل منها، وهو امر غير دقيق. فقد كرّرت قيادة المنظمة انفتاحها على كل “مشاريع الاصلاح” بل أمضت على بعضها كما هو شأن خطة إصلاح تونس الجوية، وأعلنت استعدادها لدراسة وضعية المؤسسات العمومية حالة بحالة، مع انفتاحها على كل السيناريوهات، لكن المنظمة كانت تُدرك أن بعض “الساسة المُغامرين” يعملون خفية على خوصصة المؤسسات وأن “التحاور” ليس إلا وسيلة لتبرير ذلك.
واليوم يبدو الأمر أكثر إلحاحا، فرغم أن الحكومة الحالية “صامتة” فإن ما تسرّب من وثيقة غير رسمية فيها تعهدات لصندوق النقد الدولي، يُنذر بالخطر، ويُحمّل الاتحاد وقيادته مسؤولية تاريخية. إذ يبدو أن التفويت في بعض المؤسسات، والتخفيض في الأجور وتسريح بعض العمال والموظفين والغاء الدعم قرارات شبه أكيدة، تفرضُها حال “الإفلاس غير المُعلن” وعجز المالية وخاصة “الحصار المالي” الذي تفرضه الدول المانحة والصناديق المالية بعد “إجراءات 25 جويلية”.
فبين الأزمة المالية والاتهام بإلغاء المؤسسات الديمقراطية تبدو هوامش التفاوض منعدمة، وهو ما قد يدفع “حكومة قيس سعيد” للخضوع لأوامر صندوق النقد. وعلى اتحاد الشغل في هذه الحالة تحمّل مسؤوليته التاريخية، بأن يحمي الدولة ومكاسب التونسيين الاجتماعية.
إن اتحاد الشغل يجد نفسه مرّة أخرى في قلب “الفعل السياسي”. ورغم أن القراءات المُتعجّلة تلوم على الاتحاد هذا الانخراط المباشر، فإنها تنسى أن تعاظم دور الاتحاد عائد لغياب قوة سياسية وطنية حقيقية وضعف الاحزاب، فضلا على غياب “نخبة سياسية” ذات رؤيا وتصوّر مستقبلي لتونس.
أهمية دور الاتحاد في المرحلة القادمة تعود ايضا لحالة “التجافي” التي تميّز علاقات السياسيين، بل إنها علاقات قائمة على رغبات اقصائية، تهدّد وحدة المجتمع والدولة، ويجد الطبوبي ورفاقه أنفسهم اليوم وسط ساحة سياسية متحرّكة بلا ثوابت ولا حدود ولا محاذير. مما يجعل التحديات اكبر وحملها أثقل.
Comments