بعد جلسة 3 جوان .. صراع برلماني و طلاق حكومي
المهدي عبد الجواد
تعيشُ تونس وضعا سياسيّا معقّدا. تزيده تعقيدا غيابُ الثقة والوضوح بين مختلف مكونات المشهد السياسي. مشهد تغلُبُ عليه عقلية المُخاتلة و المغالبة، حتى صار الثابتُ في السلوك السياسي كُلّه المناورة و التآمر و سوء النوايا.
لذلك حافظ هذا المشهد على طابعه المُتحوّل وسط غياب للقواعد “الإيتيقا” أو “الأخلاق” السياسية، فهو مشهد تغلب عليه مظاهر “العبثية”، ولا تخضعُ التحالفات فيه، أو التموقعات إلا للقيم “القبلية” القائمة على الحمية و نُصرة العشيرة/الحزب، و التواضُع على ترذيل الخصوم.
و لقد عرّى اليوم البرلماني الطويل (جلسة 3 جوان الجاري)، وبشكل صارخ، هذا الحال، و كشف حجم التنافق السياسي الجماعي، الذي تنخرطُ فيه أحزاب وكُتل “تراهم جميعا وقلوبهم شتى”.
في التحالفات .. وفي النفاق
في واقع غرائبي، تعيش تونس على إيقاع تحالفين سياسيين مختلفين، بل و متعارضين. المفارقة تكمُن في كون الائتلاف الحكومي مختلف تماما على الائتلاف البرلماني، الذي يعرف بدوره تصدعا. بدا جليّا أن “الأربعاء الطويلة” تكفّلت بدفع الأمور الى أقصاها. فاختلطت خريطة التحالفات، ومالت “حركة الشعب” و”تحيا تونس” وبعض “كتلة الإصلاح” و “قلب تونس” إلى صفّ الكُتل “المُعادية” لحركة “النهضة” بزعامة عبير موسي (الحزب الدستوري الحر)، التي “نجحت” في “التموقع” ضمن معارضة حدية للإسلاميين، ذكرتنا بالعداء القديم بين الدساترة (الحزب الحاكم) والاسلاميين، زمن بورقيبة وبن علي.
لقد شقت وقائع اليوم “البرلماني لليبي” ( حوار حول الموقف من الأزمة الليبية) كل الكُتل، وكل التحالفات، ونعتقد ان نتائجها الحقيقية ستكون أكبر. فقد زادت في الشرخ الكبير الذي يسِم البرلمان، وعمّق حجم العداوات فيه.
فقد كان الخطابُ عنيفا، مسّ فيه القاعَ، شتائم سوقية ونعوتا مُبتذلة وصفات وضيعة. لم يُراع فيها النواب مقامات وكرامة وذوات بعضهم البعض. لقد كانت حفلة هيستيريا جماعية تلذّذ فيها البعضُ بنهش لحم بعضه الآخر نيئا أمام الشاشات المحلية و الخليجية.
والأكثر غرابة في ذلك “الحفل” أن البعض ممن يُشاركُ النهضة “مغانم” السلطة، كان في صفّ خصومها بالبرلمان، بل شارك في “التهجّم” على رئيس الحركة، وهو مُدرك لقيمته ومنزلته الاعتبارية عند النهضاويين في مختلف مواقعهم. ونعتقد ان ذلك التلذّذ كان يُذكي مشاعر الامتعاض عند عموم النهضاويين وحلفاءهم، وهو ما سينعكس ضرورة على المسار الحكومي.
انتهى الحفلُ .. إلى الحكومة
لم يكن الهجوم على النهضة ورئيسها أمرا مُستساغا عند عموم النهضاويين، ورغم ما بدا من هدوء وصبر عند “الشيخ” فإن “يمين البكوش في صدره” لذلك لم يتأخر الردّ كثيرا.
فسرعان ما كتبت النائبة يمينة الزغلامي تعليقا على ما حصل في البرلمان، بان نتيجته “لا حلّت لا ربطت في الحكومة” و اعتذرت النهضة على الامضاء على الوثيقة التعاقدية للتضامن الحكومي التي تم رفعُها “الى أجل سيُحدّدُ لاحقا” بما يُفيد في اللغة الديبلوماسية أنه تمّ الاستغناء عليها وفق شروطها القديمة.
يبدو ان النهضة ستشترط ان يكون الائتلاف الحكومي من جنس الائتلاف البرلماني، بما يعنيه ذلك من الدفع في اتجاه تحوير وزاري يستجيب لهذه المُعطيات الجديدة. فمن غير المقبول أخلاقيا، أن تكون معي في الحكومة و عليّ في البرلمان، كما انه من غير المُستساغ سياسيا ان تكون نصيري في البرلمان و معارضي في الحكومة.
وكان لتأجيل النظر في بعض مشاريع القوانين التي تقدمت بها الحكومة، مقدمة بارزة على طبيعة المرحلة القادمة. إذ لن تتأخر حركة النهضة كثيرا لتغيير الواقع الحكومي حتى يستجيب لحقيقة الواقع البرلماني.
النهضة .. “التأديب” و”المكافأة”
ستدفعُ حركة النهضة بكل وضوح وجرأة في المرحلة القادمة في اتجاه “تأديب” من تعاونوا عليها و”مكافأة” من ناصرها حتى بالامتناع عن المشاركة. سلوك سياسي فيه “ثأر” طبيعي في نظام للحُكم تعود السلطة فيه للبرلمان، أي لمن يُهيمنُ عليه. ذ
وهي حقيقة يبدو ان الكثير من الكُتل والاحزاب والنواب لم تقرأها جيدا، او تناستها وسط هُياج “الحفل” وسخونة الخطابات. يتمّ ذلك أمام رقابة حذرة من رئيس الجمهورية، الذي لا نحسبُه الا سعيدا بهذا البرلمان وكُتله وأحزابه التي نزلت إلى القاع بعيدا على “الامانة” التي انتخبهم الشعبُ لأجلها، وهو ما يزيد في جمع الأنصار للرئيس و لــ”مشروعه”.
ما حصل سيزيد في متاعب رئيس الحكومة، إذ يُربك هذا الصراع عمل حكومته، ويُربك استقرارها و يوتّر علاقة وزرائها بعضهم ببعض. وفي كل الحالات فان تداعايات “الأربعاء الليبي” ستكون سلبية على الداخل التونسي في كل المجالات، خاصة على المسار السياسي الذي سيزداد احتقانا يضاعف الاحتقان الاجتماعي والأزمة الاقتصادية، وعلى علاقاتها الخارجية خصوصا مع تقدم قوات الوفاق على أكثر من صعيد في الحرب الأهلية الدائرة بليبيا.
Comments