الجديد

بعد غزوة خيرالدين باشا .. اين نجحت عبير واين فشلت؟

المهدي عبد الجواد

إستأثرت احداث شارع خيرالدين باشا،  باهتمام وسائل الإعلام والمتابعين للشأن السياسي في تونس. فبعد أربعة أشهر من “اعتصام التنوير” الذي تعقده عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري وبعض انصارها، للمطالبة بغلق جمعية الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرع تونس، تصاعدت الاحداث بشكل دراماتيكي، حد قرار الأمن بفض الاعتصام، من خلال استعمال القوة العامة، بعد اتهام عبير وأنصارها باقتحام المقر.

تواصل اعتصام عبير موسي لمدة طويلة، ولم ينجح في استقطاب انصار من “الطيف التقدمي” بشكل يجعله محور الاحداث ومدار استقطاب ثنائي جديد، تبحث عنه عبير موسي منذ مدة طويلة، وكان البرلمان مسرحا له.

كما لم يتحول الاعتصام نفسه الى مصدر إزعاج لانصار هذه الجمعية.  وفي الأثناء خسرت عبير حكمان قضائيان وفشلت في استصدار قرار من ولاية تونس لغلق المقر. وتلك هي الشروط القانونية التي ينص عليها مرسوم الجمعيات عدد 88/2011. فعملت على شحن الانصار لاستهداف المقر “المحاصر ” وسرعان ما نجحت عبير في استقدام سيف الدين مخلوف وأنصاره لنصرة فرع ” علماء الاسلام” وحصلت مواجهات كادت تتحول إلى “فتنة وطنية” لولا التدخل الامني الكثيف والاحترافي.

شاهد التونسيون مظاهر “مشينة” لنواب وشخصيات سياسية واستمعوا الى فاحش الاقوال واكثرها ايغالا في البذاءة الاخلاقية والسوقية.  و يطرح الامر في تقديرنا ثلاث مسائل مهمة، الديمقراطية وقيمها والمؤسسات الحامية لها اولا و مرسوم الجمعيات وضرورة مراجعته ثانيا و الرهانات السياسية لما حصل ثالثا.

في الديمقراطية وقيمها

يعكس ما حصل فجوة عميقة، بين الديمقراطية باعتبارها استبطانا لحقوق الاختلاف حتى مع اكثر الناس عنا اختلافا. فليس ضروريا في الديمقراطية ان نؤمن بما يؤمن به غيرنا، ولا ان نتفاعل معه بقدر ما تشترط قيم الديمقراطية احترام حقوق الآخرين في الايمان بما يشاؤون وممارسة ما يرونه صالحا بهم، في إطار “مشترك جامع” لا يمارس فيه العنف او الكراهية.

لست قابلا بوجود هذه الجمعيات، ولا بمثيلاتها من جمعيات نعرف الكثير ممن يقف وراءها، جمعيات دينية سنية واخرى شيعية واخرى وهابية وجمعيات تنصير مسيحية، جمعيات ممولة من قطر ومن تركيا وفرنسا والمانيا ونعرف ايضا جمعيات اخرى تتخفى وراءها قوى إقليمية ولوبيات تدفع نحو التطبيع والمثلية وغيرها ….

وان كنت اتمنى صادقا حل اغلبها ودفعها نحو المغادرة فإن ذلك لا يمكن في تقديري ان يكون بغير القانون والقضاء. لا يمكن باي شكل من الأشكال العودة الى “بلطجة” السلطة او المعارضة لمنع اي كان من النشاط.

واذا كانت ثمة قاعدة قانونية تقضي بكون “القاضي لا يحكم بعلمه” فأولى ان لا يتحول الناس الى هيئات ادعاء وحكم وقضاء ومنفذين لقراراتهم فذلك باب الفوضى وتشريع لتفكيك الدولة ومؤسساتها.

ان التعلل بضعف القضاء وبطء إجراءاته وهيمنة بعض “القوى” السياسية عليه، يدعونا الى مزيد الثقة به وإصلاحه، فمزيد من الديمقراطية هو الطريق الوحيد نحو الديمقراطية. وعليه فانه لا مجال لقبول تحول عبير موسي وانصارها الى حكام “الامر الواقع” لان ذلك سيكون تشريعا لدولة الفوضى والتوحش.

ومثلما نرفض انتصاب قيس سعيد رئيسا وقاضيا وقديسا يوزع “صكوك النظافة”، فانه لا يمكننا تحول اي كان بديلا على القانون والمؤسسات والدولة. القانون الفاسد يتم تعديله والمؤسسات يتم إصلاحها والدولة تتم تقويتها، وما عدا ذلك يظل عبثا.

مرسوم الجمعيات… الخطيئة الأصلية

لم يصدق الكثير من الحقوقيين والسياسيين هروب بن علي، الذي ظل ساكنا في خيالاتهم ووجدانهم، لذلك سارع الفقهاء الدستوريون المحترمون الى اصدار المرسومين 87و88 مباشرة بعد الثورة.

وتميز المرسومان بتساهل غير مسبوق مع تكوين الاحزاب والجمعيات وانتصاب المؤسسات والهيئات، بشكل حول الدولة الى “صبابة ماء على اليدين” مجرد جهاز اداري بيروقراطي لا سلطة له عليها. ولذلك تناسلت الجمعيات والاحزاب كالفقاع، لا حسيب ولا رقيب.

فالدولة ليست لها اصلا قاعدة بيانات تحصر عدد الجمعيات ولا قياداتها ولا معرفة لها ببرامجها وانشطتها ناهيك على تمويلها الداخلي وخاصة الخارجي. ويجوب المئات من المكونين الاجانب براري تونس ويلتقون بأبنائها وبناتها في النزل والصالونات لتكوينهم في مواضيع لا ندري عنها شيئا.

وظهرت في تونس ارستقراطية المجتمع المدني، اموال وزبونية ومنافع وشبكة مصالح شبيهة تماما بكل القبح الذي نعرفه في عالم السياسة والسياسيين. . لذلك صار اعادة النظر في هذه المراسيم امرا حيويا اليوم. حرصا على السيادة الوطنية وعلى السلم الاهلي وعلى القيم الديمقراطية.

ويمكن أن نبدا فورا بقانون الجمعيات الذي يجب ان يجبر على تحديد برامجها ومضمون انشطتها وعلى تقديم لوائح محاسبة مالية تضمن الشفافية وخاصة معرفة مصادر التمويل علاوة على الحوكمة. وان يتم تحديد آجال مضبوطة يتم اثرها غلق كل جمعية لا تستجيب للقانون.

في الرهانات السياسية

حرصت عبير موسي على جعل غلق مقر جمعية “العلماء” مدار الاستقطاب السياسي في تونس، في إطار مقاربتها التكتيكية التي تريد من خلالها قسمة البلاد بينها وبين الاخوان ممثلين في النهضة وحلفائها.

فالجمعية هي احدى الاذرع الكثيرة لجماعة الاخوان المسلمين ولا شك في ذلك. ولكن عبير موسي ليست الممثل الوحيد “للتيار المدني” ولا لطيف الديمقراطي. ورغم ان عبير حرصت على التحول الى “جوهر” استقطاب، فإننا نعتقد انها فشلت في ذلك.

فأغلب الفاعلين المدنيين والشخصيات والمثقفين والنقابيين لم ينخرطوا مباشرة في معركة “الفيراج” التي شهدها شارع خير الدين، ورغم النفير العام و”اللايف” فإن عبير لم تنجح الا في مزيد تكريس “الانعزالية” وتعميق الفجوة بينها وبين الاحزاب والتنظيمات الوطنية المدنية. وقللت من فرص امكانيات تطور الوصول لصياغة بديل ديمقراطي مدني سلمي في تونس بفعل التشتت الذي عليه القوى “المدنية” و “الديمقراطية”.

نجحت عبير في خطف الاضواء والتحق بها “المهوسون” بمعارك الماضي واستقطاباته الايديولوجية الاقصائية، ونجحت في توفير المقدمات الضرورية للانزلاق نحو العنف ودولة الفوضى، وحققت خاصة مشروع راشد الغنوشي القائم على تغذية مقولة “التدافع الاجتماعي”.

على ان النجاح الأكبر في تقديرنا هو مزيد الاساءة للديمقراطية والعملية السياسية برمتها وتعميق ازمة انتقالها المأزوم  بطبيعته. ولكنها فشلت في تكريس الثقافة الديمقراطية وتعميق سلطة الدولة والقانون، وفشلت في خلق فرصة اخرى للمشروع الوطني التونسي حتى يضمن توازنا دائما مع خصومه السياسيين، توازن ضروري للتوجه نحو مشاغل التونسيين الحقيقية.

ان غزوة “خير الدين باشا” استئناف لمعارك الهوية الاقصائية، يكتوي بنارها الجميع وتقضي على فرص صياغة المشترك الوطني المعادي للارهاب والتكفير والاقصاء والفقر وتصبح خطرا في السياق الحالي الذي تمر به البلاد، في ظل أزمة شاملة ومركبة وتواصل مخاطر الوباء الذي ما زال يتمدد.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP