الجديد

بـاكـالـوريا الهامش الملحمي

سهـا غـابري*

إثر تصريحات وزارة التربية والتعليم عن نتائج الدورة الرئيسية لباكالوريا 2021 جاءت ردود أفعال التونسيين متناقضة: على شكل خزي ولوم على ولايات تصدّرت النسب الوطنية في الغش وتهنئة وفخر بولايات أخرى تصدّرت النسب الوطنية للنجاح. فهل من سبيل لفهم هذا التناقض، وهل من المنطقي التفكير في كل منها على حدة؟

صرّح المدير العام للامتحانات بأن المترشحين لباكالوريا 2021 كانوا “مُصرين على إرتكاب الغش”، إذ تركّزت حالات الغش في ولاية سيدي بوزيد ب94 حالة، ثم ولاية قفصة ب62 حالة، تلتها ولاية القصرين ب47 حالة غش، فيما توزعت باقي حالات الغش بصفة أقل بكثير في باقي الولايات. كما سجّلت هذه الظاهرة زيادة من يوم الى آخر اذ قفزت من 79 حالة غش في اليوم الأول الى 151 حالة غش في اليوم الرابع من هذه الدورة.

فللبحث عن تأويلات ارتفاع نسب حالات الغش بامتحان الباكالوريا في الولايات الأكثر تهميشا، نُنزّل هذا المقال كمحاولة  للتفكير في ظاهرة الغش الّتي بتجاهلها قد تتحول لسمة مُتجذّرة في شخصيّة المُتعلم ورُبما أيضا المعلم، ومن ثمّة لظاهرة رائجة تفرض نفسها لا فقط على المدرسة -بالمعنى السوسيولوجي الواسع-  بل وعلى الحقل المعرفي ككلّ.

جغرافيا الغش والتأويلات التنموية

يُعدّ الغش في أشمل تعريفاته سوس ينخر العقل ويعيق التفكير، وهو فعل اجتماعي قد يرد فرديا أو جماعيا. وهذا السلوك اللاّمعياري متصل بعدة عوامل منها  المُتعلقة أساسا بالفرد كالتنشئة الاجتماعية، العوامل النفسية، ومنها التي تتعداه لتشمل العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية وحتى الجغرافية التي شكلت واقعه.

والواقع كما ورد على لسان فيلسوف المعرفة غاستون باشلار في كتابه تكوين العقل العلمي ” ليس دائما ما يمكننا أن نعتقده، لكنه على الدوام ما كان يُفترض أن نفكّر فيه”.  لذا، ولكي نفهم جغرافيا الغش اليوم كان لا بد من العودة إلى التفكير في المؤشرات التي رسمت واقعنا بتونس، لأن هذه المسألة أعمق من أن تعالج بمجرد الترغيب (من خلال التوعية والتحسيس) أو الترهيب (بتسليط العقوبات)، بل تتطلب معالجة الأسباب العميقة المُساهمة في حدوثها.

من الناحية الجغرافية تنقسم البلاد التونسية إلى ثلاث أقاليم، ولايات الشمال الجنوب والوسط. ساهمت عدة عوامل في نحت فروقات بينها منها عوامل تاريخية، ومؤسساتية، واقتصادية، وسياسية، يمكن أن نستشف أثرها من خلال تتبع سياسات التنمية ونتائجها.

أما بالعودة إلى متغير التنمية فتبرز الفوارق بين ولايات الصدارة وهي ولايات تونس الكبرى والشريط الساحلي الشرقي، تليها الولايات المجاورة للشريط السّاحلي، لتتذيّل كافة الإحصائيات  التنموية مناطق الشريط الغربي والجنوب والوسط. فتتجلى اللامساواة من خلال البون الكبير بين الجهات على مستوى نسب الفقر، توزيع ثروة الموارد الطبيعة وتوزيع المياه الصالحة للشراب بالإضافة إلى الأضرار البيئية والآثار الصحية، أيضا نصيب كل جهة من الاستثمار العمومي والاستثمار الخاص، وخاصة نسب التمتع بالرعاية الصحيّة، ونسب البطالة، ونسب التمدرس.

والتنمية كما يعرفها كتاب “مجتمع الثورة” للمولدي قسّومي هي مفهوم يقتضي الوقوف على مبادئ أساسية أهمها المساواة والحريّة المترافقتين مع العدالة الاجتماعيّة والمردوديّة الاقتصاديّة. عرض الكتاب التوزيع الجهوي للاستثمار الجملي مشيرا إلى أن 81% من هذه الاستثمارات متركزة في أقاليم تونس الكبرى الوسط الشرقي والشمال الشرقي، بينما لا تحظى الأقاليم الثلاثة المهمشة (الجنوب، الوسط الغربي والشمال الغربي) إلا بنسبة 19% فقط من الاستثمارات. وفي نفس السياق نجد أن 63%  من الاستثمار العمومي ينجز في الشريط الساحلي الذي يحظى بنسبة 80% من الاستثمار الخاص.

هذه المعطيات وفق تقرير التنمية الجهوية لسنة 2010 الذي يكشف عن مدى التفاوت الجهوي الذي عمدت السياسات التنمويّة على إعادة إنتاجه، والذي تعمق حتى بعد أحداث 17 ديسمبر 2010 ولا تزال آثاره جلية إلى الآن بل إننا لا نبالغ إذا اعتبرنا أن ذات الترتيب قائم إلى الآن وهو ما يتجلى بوضوح من خلال نتائج أحد أهم الأسس التي نقيس بها مستوى التنمية ألا وهو التعليم الذي يُقاس  بصفة أساسية من خلال نتائج الباكالوريا.

نستعرض لمحة عن النتائج التي عرضتها وزارة التربية عن طريق الإدارة العامة للامتحانات بعد صدور نتائج الدورة الرئيسية لباكالوريا 2021 بتاريخ 02 جويلية. ونكتفي بعرض الترتيب التفاضلي لأعلى سبع مندوبيات (مندوبية صفاقس2  بمعدل 64.53% ومندوبية صفاقس 1 بمعدل 64.36% ) ولايات الساحل (المنستير  بمعدل 63.30% فالمهدية بمعدل 62.48% وسوسة 60.69%)، ثم مندوبيتي (أريانة بمعدل 57.27 %، ونابل بمعدل 56.66%). لتكون الحصيلة المشهديّة كالآتي:

ولايات متفوقة بنسب الناجحين على المستوى الوطني أعلاها مرتبة  ولاية صفاقس، (ولاية المنستير، ولاية المهدية، ولاية سوسة، فولاية أريانة  وولاية نابل) تقابلها الولايات الأقل نجاحا أدناها ولاية جندوبة (فولاية قفصة، ولاية قبلي، ولاية تطاوين، ولاية توزر، فسيدي بوزيد والقصرين).

باكالوريا صعود الهامش

ونخلص إلى أن الدورة الرئيسية لباكالوريا 2021 هي استثنائية وحمّالة لجملة من التناقضات نكتفي بعرض ثلاث أوجه منها.

أولا، 

هي باكالوريا التناقضات لأن الولايات الأقل حظا في التنمية والأكثر تهميشا ولايات سيدي بوزيد قفصة والقصرين حصدت نتائج مهمة يمكن أن نقيسها بمنطق الربح أو تجنب الخسارة. فمن منطق الربح، تحصلت أصيلة أفقر منطقة بولاية القصرين “حاسي الفريد” التلميذة حنين محمدي على معدل 18.04. ومن منطق الربح الذي يعادل تجنب الخسارة،  تصدّر هذا الثلاثي قائمة أكثر الولايات التي نجحت في  إحباط عمليات الغش بمعدل تجاوز نصف عدد الحالات التي ضبطت في باقي ولايات الجمهورية، رغم صعوبة الأمر على المراقبين والتي قد تصل إلى درجة تهديدهم أو حتى الإعتداء عليهم، وهو حال المراقب كريم جمعة بمنطقة القصر بولاية قفصة الذي وقع تهشيم سيارته إثر امتحان الأنجليزية.

ثانيا،

هي باكالوريا استثنائية، نظرا للوضع الصحي الكوفيدي العام وللتخفيف من البرنامج السنوي مما أتاح للتلاميذ فرصة أكبر للمراجعة وبالتالي للتفوق وهذا ما أقرت به صاحبة أعلى معدل وطني لشعبة الرياضيات مرام مرزوقي  المُرسّمة ب”المعهد النموذجي بجندوية” والمتحصلة على عشرين من عشرين والتناقض في أن ولاية جندوبة هي أقل ولاية من حيث نسب النجاح .

ثالثا،

هي باكالوريا التناقضات فهي سنة صعود المهمّش، لأنّه ولأوّل مرّة تتقلّد مراتب الأوائل على المستوى الوطني معاهد ولايات الشمال الغربي المُفقرة. إذ تميّزت ندى الشارني بتحصّلها على 19.97 وهو أعلى معدل وطني في العلوم التجريبية سُجل ب “المعهد النموذجي بالكاف”. أيضا، تفوّقت ولاية جندوبة تحديدا “معهد أبو القاسم الشابي بغار الدماء ” بتقلّد التلميذ  بدر الدين الماجري الرتبة الأوّل وطنيا على مستوى باكالوريا الآداب بتحصّله على معدّل 16.81 وقد دوّن لنجاحه في صفحته على الفايسبوك

-كبطل ملحمي متمسك بالنزاع من أجل قومه لآخر رمق- قائلا:

“أدعو المسئولين إلى الالتفات إلى المناطق النائية والاهتمام بالكادحين لأن فيها رجالا صالحين لا يبغون إلاّ صلاح تونس وفلاحها”.

إنّ الجدل حول مسألة التباين بين الجهات غير حديث العهد، إلاّ أن مناسبات كامتحان الباكالوريا قد تعيد طرحه  بطريقة مكثفة، لكن هذا لا يعنى المبالغة في التراشق باللوم أو التباهي اللّذان قد يستحيلا إلى مُغذّيات للنعرات الجهويّة. وبالتالي لتجنب الأفعال المنحرفة والظواهر اللامعيارية كالجهوية  والغش…فإنّ
المنظومة التعليمية في تونس في حاجة إلى إعادة التفكير في طرق تعديلية لمعالجة الأسباب لا المظاهر، وذلك بالتوازي مع إرساء مشروع وطني موجه لمختلف الأسس التنموية كالصحّة وخاصة التشغيل الذي يعد الغاية الأهم من التعليم.

*باحثة في مجال العلوم الثقافية

 

 

 

 

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP