بورتريه// محسن مرزوق .. المعنى في زمن الشعبوية
منذر بالضيافي
استفزني الحضور “المميز” لمحسن مرزوق اليوم الجمعة، في البرنامج السياسي اليومي على قناة التاسعة، الذي حل الرجل ضيفا عليه، فاخترت لا المشاهدة فقط، بل التفاعل فالرجل – دون مبالغة – أعاد – برأي – اليوم المعنى للحياة السياسية، التي تعاني من “التصحر” ومن هيمنة الخطاب “الشعبوي” وحتى “التسلطي” الذي يحن الى الماضي القريب قبل البعيد.
يعد محسن مرزوق، من بين الوجوه اللافتة، في هذا المشهد السياسي التي تغلب عليه الرداءة والشعبوية، وسقوط الخطاب السياسي الى الدرك الأسفل من الاسفاف، وهو ما جعل الساحة السياسية تعج بأشباه السياسيين فاقدي “المعنى”، في هذه العتمة السياسية والحزبية، يبرز مرزوق متفرد من حيث خطابه وحضوره وثقافته السياسية فضلا عن ادراكه للتحولات، سواء التي تجري في رحم مجتمعنا أو المرتبطة البعد الاستراتيجي الاقليمي والدولي.
برغم “خيبات” السنوات الفارطة، فانه و مع كل اطلالة اعلامية يبرز محسن مرزوق بفضل امتلاكه لمهارات وعمق ثقافي وسياسي تفتقد له الساحة، التي تحولت فيها الممارسة السياسية الى “لغو” و “عنتريات”، ولعل هذا ما يفسر اتساع الفجوة حد القطيعة بين “الجماهير” و “الأحزاب”، ليفسح المجال ل تمدد “الشعبوية”، التي انكشفت “عوراتها” في زمن قياسي، مثلما كان متوقعا.
محسن مرزوق، ليس غريبا عن الشأن العام، و هو القادم من الجيل الذهبي للحركة الطلابية، حقبة مهمة تمرس خلالها على العمل السياسي والنقابي أيضا، وان كان خلالها محسوبا أو مصنفا ايديولوجيا على اليسار الجامعي، تحديدا “الوطنيون الديمقراطيون بالجامعة” (وطج)، فان بوادر التحرر من “سجن الايديولوجيا” كانت حاضرة وبقوة في خطابه الطلابي وستبرز أكثر في الحقل السياسي الوطني، خاصة بعد ثورة 14 جانفي 2011، سواء في تجربته داخل “نداء تونس” أو مع الحزب الذي أسسه بنفسه “حركة مشروع تونس”، لكن مع ذلك حافظ على “خصوصيته” ونعني هنا تحديدا تلك العلاقة النقدية في علاقة بتيار الاسلام السياسي، فالبراغماتية لم تمنعه من ابراز موقف معارض للأحزاب التي توظف الدين في السياسة، بعيدا عن السقوط في التنظير للاقصاء أو تبني مقولات وهواجس “فوبيا الاسلام السياسي”.
غادر محسن مرزوق، منذ سنوات سجن الأيديولوجيا نحو تعاطي مع السياسة بوصفها “فن الممكن”، وهو ما يفترض التسلّح بالمناورة والبراغماتية وحسن قراءة التحولات وموازين القوى على الأرض.
بعد “ملحمة” نداء تونس رفقة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي والتي كان الرجل من أبرز الفاعلين فيها فكرا وممارسة، اختار بعد أن تسربت المياه الى مركب النداء، والتي انتهت بغرق السفينة، وبعد أن استكمل كل محاولات الانقاذ وتعذر عليه ذلك، اختار تكوين حزب ( مشروع تونس ) الذي كانت له كل إمكانات التطور، لكنه لم قطع نهائيا مع سلبيات أحزابنا، وخاصة غياب التسيير الديمقراطي، وهيمنة الزعيم أو صاحب “الباتيندة”، فكانت الحصيلة والنتيجة معلومة، وعبرت عنها نتائج الاستحقاقات الانتخابية . فهل يعني نهاية “المشروع” وصاحبه؟
برغم “الهزيمة”، فان الرجل – برأينا – ما زال في جعبته الكثير للانطلاق من جديد، كما بإمكان حركة “مشروع تونس” التموقع كبديل محتمل، وكتنظيم يعيد التوازن للمشهد السياسي، ولها إمكانيات بشرية وقادرة على استقطاب أطياف واسعة من الطيف الديمقراطي والوطني المشتت، وبالتالي لها فرصة في الواقع الذي ما زال في انتظار عرض سياسي تعبر عنه حركة مرزوق، برغم إنها ما تزال لم تشكل هوية سياسية تقطع مع الهوية السياسية لنداء تونس، ولعل هذا ما يفسر خيبات السنوات الأخيرة، لكن هذا لا يمثل برأي عائقا لتمدد وانتشار هذه الحركة. وهنا ينتظر الحزب ومرزوق عمل كبير، وعليه أن يشتغل أكثر على شخصيته، ضمن واقع حزبه أولا وواقع البلاد ثانيا، حتى يكون قادرًا على التموقع الإيجابي في المشهد.
من خلال أداء صاحب “المشروع”، بعد الثورة بكل ما فيها من انتصارات وانتكاسات، نلاحظ أن الرجل لم يرمي المنديل و تعاطي بقراءة نقدية مع ارث المرحلة السابقة كما سبق له وأن تعاطى مع ارث الحركة الطلابية، دون قطيعة مع ثوابت ومرتكزات الثقافة السياسية الحداثية ممثلة في تياراتها الرئيسية، ونعني هنا التيار الوطني/الحداثي – البورقيبي – ، والتيار اليساري القريب أكثر من “اليسار الثقافي”، ممثلا في أطروحات المجددين في الماركسية، مثل الايطالي أنطونيوغرامشي.
لعل هذا ما يفسر الحضور الطاغي للبعد الثقافي في الممارسة السياسية لمرزوق، الذي يعتبر أنه لا يمكن ممارسة السياسة بدون عمق ثقافي وتنظيري، فالثقافة بعد اساسي سيكون حاضرا في تحديد طبيعة العلاقة مع التيار الاسلامي.
كما يري الكثيرون ممن يعرفون محسن مرزوق، ومن الذين عايشوه زمن الحركة الطلابية وما بعدها، أن الرجل يتوفر على موهبة وخاصيات مهمة مثل الذكاء والخطابة والحضور المشهدي.
وهي كلها مواصفات مهمة في العمل السياسي الحزبي، وهي التي فسرت الى حد كبير النجاحات التي حققها، والتي جعلته يحظي بثقة الرئيس المخضرم الراحل الباجي قائد السبسي، الذي أعطاه رئاسة حملته الانتخابية، ثم كلفه بالأمانة العامة لنداء تونس، وقد يكون الرئيس السبسي “رأي في مرزوق بعض من شبابه”، قبل أن يحصل الطلاق بالتراضي بينهما مع الابقاء دائما على حبل الود، حيث غادر مرزوق قصر قرطاج ثم غادر حزب النداء.
استطاع مرزوق، بفضل “موهبة سياسية” لافتة، يقر بها خصومه قبل أنصاره، من “التموقع” في مشهد سياسي متحرك، عبر إبراز “دينامية” و “لوك” جديدين، غير متعارف عليهما في الساحة السياسية، التي ما تزال تخضع لهيمنة “الشيوخ”، بمعنى تهرم كبير في قادة الأحزاب وفي الناشطين السياسيين.
كما اختار الرجل ودون تردد أن يضع مساره واختياراته، في مواجهة التيار الإسلامي الذي تحكم في المشهد ما بعد الثوري. مقدما نفسه على أنه من “حماة” المشروع أو النمط المجتمعي التونسي، الذي يري أنه مهددا من قبل “الاسلام السياسي”.
وهنا نجح في توظيف المكون الثقافي والايديولوجي، كما دفعته اندفاعته الى مزيد صقل موهبته وتنميتها، من خلال الفهم السياسي للأحداث الجارية، سواء داخل حزب “نداء تونس” الذي جعل منه أداة لصقل هذه الموهبة وللبروز وأيضا القيادة، ومن خلال قيادة الحملة الرئاسية للرئيس السبسي، ومن خلال تحمل مسؤولية الأمانة العامة في الحزب الذي فاز في الانتخابات، ليضع كل هذه التجربة وهذا الرصيد في “مشروعه” الحزبي، الذي عليه أن يحوله الى “مشروع” لقطاع واسع من التونسيين، في ساحة تعيش حالة فراغ وتنتظر ولادة بديل مقنع.
لا يبنى مرزوق “مشروعه” على معاداة “المشروع الاسلامي” فقط، ففي كل “دردشاتي” معه حول مشروعه السياسي، يؤكد على ضرورة المحافظة على أسس الحريات والديمقراطية، والعمل على تجذير هذا المسار الديمقراطي، الذي يواجه صعوبات وعثرات يراها طبيعية في ظل كل مرحلة انتقالية كبرى، سمتها الأساسية أو الطاغية هي سقوط نظام دون التوفق الى بديل بناء بديل له وهي عملية جارية وهي في طور التأسيس والبناء.
كما أن التنظير السياسي، لم يجعله يغفل عما يمكن أن نطلق عليه “أولويات المرحلة”، هنا يشير “صاحب المشروع” الى أن الدولة بحاجة ماسّة إلى استعادة سلطتها كاملة، من خلال الاهتمام بـكسب الرهان في ثلاثة قضايا كبرى، وهي: “الحرب على الفساد” و”الحرب على الإرهاب” و”الإصلاحات الكبرى”، وذلك من أجل تجنب الانزلاق نحو الفشل الذي يتغذي من شيوع و انتشار مظاهر الفوضى التي عادة ما تصاحب الفترات الانتقالية.
في الأخير، هل سينجح محسن مرزوق في التحول الى زعيم سياسي مقنع ؟ وهل سينجح في تحويل حركة “مشروع تونس” الى حزب تونس المستقبل أو البديل السياسي الممكن؟ والأهم هل سيتجاوز خيبات السنوات الحمس الأخيرة ؟ وهل سيكون قادرا على التحول الى شخصية جامعة في مشهد سياسي وحزبي تغلب عليه كل مظاهر التشتت والانقسام ؟
Comments