بورتريه: نـور الدّيــن الطبّـوبي .. العاشوري الأخير
منذر بالضيافي
أعاد مؤتمر صفاقس الأخير، تصعيد نورالدين الطبوبي، لولاية ثانية ، لقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، في مرحلة “فارقة” في تاريخ المنظمة الشغيلة والعمل النقابي عموما، وأيضا في تاريخ البلاد التي تعصف بها “أزمة شاملة ومركبة”، لا نبالغ القول بأنها الأشد خطورة في تاريخ تونس المعاصر، ويستمد هذا الكلام صدقيته ، من حالة الانقسام المجتمعي وضعف الدولة الذي بات بصدد التحول الى تفكيك لمؤسساتها وللثوابت التي قامت وبنيت عليها، وهو ما نبه اليه الطبوبي في أكثر من مناسبة، داعيا الى ضروة انقاذ البلاد والدولة، وهو ما جعله يرفض “الحوار الرئاسي”، الذي دعا له الرئيس قيس سعيد، معتبرا أنه لا يستجيب في تصوراته ومنهجيته وغاياته، الى رفع التحديات و المخاطر التي اصبحت تهدد الدولة واضعفتها في الداخل وجعلتها في وضع عزلة دولية، في هذا السياق حاولت قيادة اتحاد الشغل، وضع أسباب ودواعيي رفضها للحوار، لكن تركت الأبواب مواربة، ربما “يعود شاهد العقل” للجميع.
****
موقف الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل من “الشأن الجاري”، يستند الى “ارث مزدوج” الاتحاد و الدولة الوطنية، التي تعد المنظمة شريك أساسي ورئيسي في بنائها، وهو دور وطني تأكد وتعاظم أكثر خلال مرحلة ما بعد ثورة 14 جانفي 2011، و هو دور مرشّح للاستمرار، في العهدة النقابية الجديدة، التي يحكمها «التوافق» و “الانسجام” و “الوحدة النقابية”، فهي قيادة نقابية تضمن التواصــل لا القطيعة مع الخيارات والسياسات التي قادت المنظمة، عبر تاريخها الطويل .
برغم ما رافق انجاز مؤتمر صفاقس من جدل حول تعديل الفصل 20 من القانون الأساسي، فان نور الدين الطبوبي، الذي خلف نفسه في مركز الأمانة العامة مع قياة “منسجمة”، هو خير ضمان لقيادة المرحلة المقبلة، كما سبق وأن اشرنا الى تحدياتها “النقابية” و “الوطنية”، وهو ما برز في موقف الطبوبي والمنظمة في أول اختبار، ونعني هنا الموقف من سب الخروج من الأزمة التي تعصف بالدولة، فكان انتصاره للخط الوطني التقليدي للمنظمة، فقد اختارت القيادة النقابية، الحفاظ على استقلالية قرارها الداخلي وأن تحمى الخط الوطني الذي يمثل رافعة اساسية للدولة الوطنية، لكنه مع ذلك موقف حافظ على “مرونة” لافتة، وهي تعبر عن تمترس “النقابيين التقليديين” أو ما يعرف في المشهد النقابي ب “العاشوريين”، ونورالدين الطبوبي يعد من أخرهم ( العاشور الأخير)، بثلاثة خصال اساسية وهي: الوطنية، البرغماتية والاستقلالية، ثوابت تقود سياسات المنظمة وتحدد مواقفها.
****
قبل خمسة سنوات، في جانفي 2017، و قبل أيام من مؤتمر طبرقة، الذي أنتخب فيها نورالدين الطبوبي أمينا عاما للاتحاد، التقيت الرجل في مكتبه، وهو حينها كان يشغل خطة الأمين العام المساعد لحسين العباسي، مكلف بالهياكل، وهي المهم المركزية والاساسية في هيكلة ساحة محمد علي. يومها أكد لي – وهو المرشح للمنصب الأول – أنّه سيكون حارسا – على بعد أساسي، وهو تدعيم وعدم التنازل عن الدور الوطني، الذي لعبته المنظمة ولا تــزال منذ الجيل المؤسس مع الشهيد فرحات حشاد.
وللتذكير فإن الاتحاد قام بدور حاسم في حماية مسار الانتقال الديمقراطي، عبر إدارة حوار وطني في مرحلة لافتة، وكان له فيها الفضل في إدارة الخلاف وصولا إلى التعايش بين الفرقاء السياسيين، وبالتالي تمكّن من المساهمة في تجنيب البلاد مخاطر الانزلاق نحو أهوال التناحر والحرب الأهلية، التي انقادت إليها دول «الربيع العربي» الأخرى مثل سوريا وليبيا، وهو دور يشدد الطبوبي اليوم، وتونس تمر ب “مخاطر” في وضع داخلي سمته الأساسية “الانقسام” فضلا عن حالة انهيار اقتصادي تهدد الاستقرار الاجتماعي، يضاف اليها وضع اقليمي و دولي “متوتر” ، وهي كلها تفرض التركيز على دعم “الوحدة الوطنية”، وهنا يشدد الطبوبي على أن هذه الوحدة، لا تعني أبدا الرجوع الى ما قبل 25 جويلية 2021، التي يعتبرها – حكام تلك الفترة – مسؤولة كثيرا عن “المصائب” التي تشهدها البلاد، من جهة أخرى ينبه الرجل، الى أن الأوضاع المربكة، لا تسمح بالذهاب نحو أي “مغامرة” من شأنها أن تزيد في تعميق الجراح.
****
أمّا البعد الثاني، الذي يضعه الأمين العام نصب عينيه، ولا يمكن له أن يحيد عنه، فهو المحافظة على الدور الاجتماعي للمنظمة في إطار الاستقلالية والحياد، المتمثل في الدفاع عن مصالح الطبقة الشغيلة، عبــــر آلية الحوار والتفـــاوض ومراعاة المصلحة الوطنية.
للإشارة، فقد أصبحـت للمنظمـة الشغـــيلة تقاليـــد في إدارة المفـاوضات بصفة دورية مع القطاعين العام والخاص، وفق منهجية سمحت بإقرار زيادات منتظمة في الأجــور، ساهمت في المحافظة على القدرة الشرائية لفئات وشرائح واسعـــة من التونسيين، فضلا عن كونها حمت الطبقة الوسطى من التفكّك، وبالتالي مثّلت أفضل ضمان لتثبيت الاستقرار الاجتماعي، الذي هو عماد النظام الديمقراطي.
من هو نورالدين الطبوبي؟
الأمين العام لعهدة ثانية، نور الدين الطبوبي، المولود في 8 فيفري 1961 بباجة، ينحدر من وسط اجتماعي «متوسط الحال» ومن بيئة «محافظة» جعلته أكثر التصاقا بأســرته المتكــونة من ولدين وبنتين، أما نقابيا فــإنّ باجة والشمـــال الغربي لا تعرف لهما تقاليــد كبيـــرة في العمل النقـابي مـقـــارنة بجهات أخـرى، مثل صفـــاقس والعاصمة والساحل.
قبل مؤتمر طبرقة، جانفي 2017، و على الرغم أنّه شغل مهمة الأمين العام المساعد المكلف بالنظام الداخلي، وهي مهمة تجعل منه، حسب تقاليد الاتحاد الرجل الثاني بعد حسين العباسي الأمين العام السابق، فإنّه حينها اختار الظلّ حيث لم يعرف له في تلك المرحلة بروز إعلامي كبير، اذ فضل أن يكون أداؤه متسما بـ«النجاعة» و«البراغمـــاتية»، دون ضجيــج، لـذلك اختار منذ البدايات الاهتمام بالهياكل والنظام الداخلي (أي الجهاز)، معتبرا أنّها عصب «الارتقاء النقابي»، وهذا ما سيؤكده ويثبته مسار الرجل لاحقا، وهذا عنوان مسكه بقيادة المنظمة في مرحلة “زمن العاصفة”.
منذ بـــداية انخراط نور الدين الطبوبي في العمل النقابي، في مطلع تسعينات القرن الماضي، حينما شغل خطّة كاتب عام نقابة أساسية في شركة اللحوم (1990)، وهي أوّل مسؤولية له، اختار العمل في صمت، بعيدا عن الأضواء، وهو خيار لا يزال يلازمه إلى يوم الناس هذا، بعد ما يقارب ثلاثة عقود من النضال النقابي المتواصل، استطاع خلالها معرفة «الماكينة» من الداخل، الأمر الذي سمح له بالتخطيط بهدوء لاعتلاء هرمها. ثم البقاء في “العرش”.
تدرّج نور الدين الطبوبي في سلّم المسؤوليات، من نقابي قاعدي، إلى مسؤول عن نقابة أساسية (شركة اللحوم – جامعة الفلاحة، قطاع هام في هيكلة الاتحاد) سنة 1990، إلى كاتب عام للاتحاد الجهوي بتونس، مكلف بالنظام الداخلي، بعد عشرية كاملة تفصله عن أوّل مهمّة له في المنظمة، تحديدا سنة 2001، وفي نفس السنة شغل خــطة كاتب عام الفرع الجامعـي للفـلاحة بتونس الكبرى، ثـم بعـــد تسع سنوات أصبح الأمين العام للاتحاد الجهـــوي بتونس (سنـــة 2009) أهمّ جهة نقـــابية مـــن حيــث الثقل المؤسّساتي والنقـــابي وأيـــضا السياسي.
وقد ٲهلته هذه الخطة المهمّة لأخذ موقع له في القيادة المركزية، خلال المؤتمر الوطني الذي انعقد بعد الثورة في طبرقة (2011)، ليشغل خطة أمين عام مساعد، مكلف بالنظام الداخلي. وذلك «حلم» تمّ التمهيد له في المؤتمر الوطني العام عدد 21 للاتحاد الذي انعقد سنة 2006 بالمنستير، حينها بدأت تكبر طموحات الطبوبي، حيث مسك بلجنة النظام الداخلي، التي مكّنته من اكتشاف كيفية «هندسة» المؤتمرات.
يعتبر نور الدين الطبوبي، وفق تصنيفات النقابيين «ولد الجهاز» أو «الماكينة»، وفي «البطحة» هو محسوب على «الخط العاشوري» (نسبة للنقابي الكبير الحبيب عاشور)، وهو تيار «يتشرف بالانتساب إليه»، وفق قوله في دردشة جمعتنا، و يرى أنه نهج متحرر من كلّ ارتهان للسياسي والإيديولوجي، لصالح البعد «النقابي البراغماتي» و«الوطني”.
لعلّ هذا ما يجعل من نور الدين الطبوبي، «نقابيا كلاسيكيا»، غير بعيد عن مواصفات الأمين العام الذي أخذ عنه المشعل، حسين العباسي، وهي مواصفات تحظى بمساندة الأغلبية المطلقة في الجسم النقابي في مختلف مستوياته، فضلا على أنها مطلوبة أيضا، من قبل بقية الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين في البلاد، باعتبارها ستمثل أكثر نهج الاستمرارية في سياسات وخيارات المنظمة النقابية ومـــواقفها، خيار يشدّد عليه نــورالدين الطبوبي، وهــو المتشبع بالبعد «الوطني العـــاشــــوري» للمنظمة الشغيلة، مؤكّــــدا ٲنه متمســــك به، مثلما هو متمسّك بمواصلة «الدور الوطنـــي للاتحــاد»، خــاصّة في مـرحلة يقــــول إنهـا «صعــبـــة » تفرض «الحوار» و«الشراكة»، بين كل القـوى الـوطنية لتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية الكبرى.
Comments