بورقيبة في عين السبسي، شهادة الصحفي والكاتب، محمد معالي
كتب: محمد معالي
بمناسبة أربعينية الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، أنشر سلسلة من الشهادات حول الرجل، سبق وأن نشرتها في كتابي: “الباجي قايد السبسي .. المشي بين الألغام”، الصادر في مارس 2017، عن دار “ورقة للنشر”، شهادة اليوم للصحفي والكاتب، محمد معالي، والتي أختار لها العنوان التالي:” بورقيبة في عين السبسي”
لم تربطني بالباجي قايد السبسي علاقة شخصيّة، ومع ذلك أعتقد أنني عرفت الرجل، ليس هذا فحسب بل إنه أتاح لي معرفة رجل آخر، هو الحبيب بورقيبة، ومكّنني من أن أوضّح في ذهني تلك الصورة الغائمة، والملتبسة أحيانا، التي تشكلت بفعل تراكمات سنوات طويلة تحت تأثير ما قرأت عنه وما سمعت..
في البداية لم يكن اسم الباجي قايد السيسي يعني لدي الكثير. ولم يكن ما أعرفه عنه يتجاوز ما يعرفه أبناء جيلي، ممن كانوا يولون اهتماما ما بالشأن العام، عن أحد وزراء بورقيبة وإن اختلفت الصورة التي حملناها عنهم في ارتباط ببعض المحطات التاريخية مثل مؤتمر المنستير (الأول) سنة 1971 وما لحقه وما تمخض عنه.. ثم خلال سنوات الأيام العجاف في السبعينات وفترة شيخوخة بورقيبة ودسائس القصر…
وجدتني ذات يوم في أوائل سنة 2010 إزاء تحدّ حقيقي.. كان هذا التحدي يحمل اسمين: الباجي قايد السبسي والحبيب بورقيبة معا، هكذا دفعة واحدة ! كان ذلك لما استقبلني الفقيد محمد المصمودي، مدير دار الجنوب للنشر، بمكتبه في شارع فلسطين بتونس ووضع أمامي كتابا من الحجم الكبير يتجاوز عدد صفحاته الخمسمائة. كانت صورة الرئيس بورقيبة تحتلّ صفحة الغلاف وكُتب فوقها اسم المؤلف الباجي قايد السبسي وعنوان الكتاب ” HABIB BOURGUIBA Le bon grain et l’ivraie “. لم أكن قرأت الكتاب حتى تلك اللحظة وإن كنت رأيته في واجهات بعض المكتبات. حدّثني سي محمد عن الظروف التي أحاطت بتأليف الكتاب وطرح عليّ ترجمته إلى العربية. قلت له إنني أكنّ احتراما خاصا للمؤلف، وهو ثالث ثلاثة عرفت اثنين منهم عن قرب هما أحمد المستيري وحسيب بن عمار، غير أنّه لم يسبق لي أن ترجمت كتابا كاملا فما بالك بمؤلف بهذا الحجم ! أحس سي محمد بما أشعر به فلم يبخل عليّ بتشجيعه… وانطلقت في المغامرة التي كانت ممتعة وثريّة بقدر ما كانت صعبة.
استمرّت معاشرتي لكتاب “الحبيب بورقيبة…” لقايد السبسي شهورا طويلة. كان المؤلّف يراوح بين الحديث عن نفسه والحديث عن بورقيبة ويستطرد ليتناول الأحداث والشخصيات التي طبعت مسار حركة التحرر الوطني في تونس، وحتى الجزائر، ثم مرحلة بناء الدولة وما تلاها من هزات وتقلبات..
لم يكن الكاتب يُخفي تعلقه الشديد ببورقيبة وولاءه له، وهو ما حرّره من محاولة الظهور بمظهر الراوية “الموضوعي” للأحداث التاريخية التي يتناولها. وقد أتاح له ذلك رسم لوحات على درجة كبيرة من الشاعرية تمتزج فيها كليّا ذات الكاتب بموضوعه، سي الحبيب، وهذا ما نلمسه مثلا في ذلك المشهد الذي رسمه لبورقيبة وهو في بيت نومه بباريس مرتديا ملابسه الداخلية القديمة التي حاول أن يخيط أحد ثقوبها بنفسه بخيط مختلف عن لون الثوب المُرقّع، فشكل ذلك “الحجة الدامغة” التي أقنعت الكاتب، نهائيا، بوضع ثقته الكاملة في بورقيبة والتسليم بزعامته دون منازع.
لقد شكلت هذه اللحظة منعرجا حاسما في حياة الباجي قايد السبسي وكانت نقطة البداية الحقيقية في المسار الذي نعرفه. ولا أخال هذه اللحظة أيضا غريبة عن هذا الانطباع الذي يحصل لدى من عرفوا بورقيبة بأن في بعض حركات السبسي وردود أفعاله حتى اليوم شيء من بورقيبة ! هل هو يفعل ذلك عن وعي ولأهداف سياسية لا تخفى؟ أم نتيجة تأثّر عميق جعله يتماهي مع مثله الأعلى؟ إن من عاشوا عهد بورقيبة يذكرون، دون ريب، “موضة” تقليد بورقيبة التي شاعت حتى في طريقة إلقاء خطبه، أما طريقته في القيادة والتسيير فقد سرت عدواها حتى لذى معارضيه !
كان السبسي تلميذا مخلصا لمعلمه، معجبا به أيما إعجاب ولكن “عين الرضا” التي كان ينظر بها إلى كل إنجازات “المجاهد الأكبر” لم تُفقده النظرة النقدية التي جعلته يبدي احترازه على النزعة الاستبدادية ومعارضته لنزعة الانفراد بالرأي التي ظلت تتفاقم لديه يوما بعد يوم خاصة في أواخر أيام حكمه. وهذا ما جعل السبسي يعيش تمزقا خلال السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة فقد كان رفضه للحكم الفردي وآثاره الكارثية ينأى به عن قصر قرطاج ولكن تعلقه اللامشروط بزعيمه يمنعه من الابتعاد كليا.
Comments