بورقيبة .. مشروع تونس التاريخي
المهدي عبد الجواد
في ذكرى وفاته، مازال بورقيبة يسحر اجيالا لم تعرفه. و ما زالت تتقاطع اليوم في تونس مشاريع سياسية و مبادرات مختلفة، و هي في أكثرها تُعلن عكس ما تُضمر، و لكنها متحدة حول بورقيبة مدحا او ذما فلكل مشروع لبورقيبة وجود فيه.. تُعلن الايمان بالاختلاف و بالحريات و بحقوق الانسان و بالديمقراطية، فيما هي في جوهرها عكس ذلك تماما. و الدليل على ذلك بسيط جدا. فالتعامل مع الماضي القريب و البعيد لتونس ما بعد 56 يدل، على جهل كبير بالتاريخ التونسي. و يتموقع بورقيبة في قلب الرحى من كل المشاريع المتنازعة في تونس اليوم. و هو يُقيم الدليل على أن بورقيبة عاش زعيما و مات زعيما و سيظل زعيما، فقد كان من القلة الإنسانية التي كان لها “موعدا مع التاريخ” لم يتخلف عنه.
بورقيبة تاريخ أمة
كان الحزب الحر التونسي الجديد، كغيره من أحزاب الاستقلال الكبيرة جبهة واسعة تضمُ تيارات مختلفة التقت تاريخيا على مهمة واضحة و هي “الاستقلال” و حرية الوطن. لذلك تم التغاضي في الحقيقة عن الاختلافات العميقة الفكرية و الايديولوجية التي كانت بين مختلف القيادات السياسية طالما انها لا تؤثر في الطريق نحو الغاية القصوى، و لذلك التقى في الحزب جنبا الى جنب خريجو المدارس الحديثة و التقليدية، التقى أصحاب الشهادات الجامعية الفرنسية و أصحاب شهادات الزيتونة، اجتمع في الحزب التجار و المحامون و الموظفون و رجال التعليم و المشايخ و أصحاب الصنائع و الشعراء و المغنين و الفلاحين و عملة الحضائر… الصغار و الكبار المتعلمون و الاميون… لقد كان حزب تونس الموحدة. و لئن تقدم بورقيبة أقرانه فلأن صفات عديدة في شخصيته بوّأته ذلك. و يكفي ان نتذكر المناضلين الذين كانوا محيطين به حتى نعرف أهمية شخصية بورقيبة.
لقد دفع آلاف التونسيين من عرقهم و أجسادهم و دمائهم في صراع لا نزال نجهل الكثير من تفاصيله. و لقد مرت تونس حقيقة بين 1955 و 1962، بحرب أهلية حقيقية، فقد كانت مسرحا للتصفيات و العنف المنفلت مارسه الدستوريون على بعضهم البعض، دستوريو بن يوسف “اليوسفيون” و دستوريو بورقيبة “البورقيبيون”، لقد كان الامر صراعا على السلطة مثلما عرفه تاريخنا العربي الاسلامي و عرفته كل حركات التحرر و كل الثورات في العالم. و أعتقد ان “الصورة المثالية” التي يحتفظ بها بعض التونسيون للزعيم بن صالح ناشئة عن “معارضتهم” لغياب الديمقراطية في فترة الحكم البورقيبي و من “الانتصار” الى المغلوب دائما و من التعاطف مع “الخاسرين” و آلام المسجونين.
ان الفترة اليوسفية كانت فترة بناء الشرعية، كانت صراعا سياسيا على غير قواعد الصراع الديمقراطي، و ما جرى فيها شبيه، بالصراع الذي نشأ بين حركة النهضة و بن علي في بداية التسعينات، إذ لم يكن الصراع في الفترتين حول الحريات أو الديمقراطية أو الحقوق الاجتماعية و التنمية الجهوية بل كان صراعا على السلطة. و الذي يختار ان يتصارع على السلطة باستعمال العنف، عليه ان يتحمل تبعات ما يأتيه. صحيح ان “الشراسة” في التعامل مع الخصوم حتى العنيفين منهم أمر مرفوض، لكنه امر مُبرر بمنطق السلطة. و لنا في التاريخ الاسلامي شواهد عديدة عن العنف الذي كانت تمارسه الدولة و الخلفاء على خصومهم.
إن بن يوسف لم يكن تاريخيا عروبيا مناضلا من أجل الوحدة و الحرية و العدالة، كما انه لم يكن أبدا في حالة تضاد مع بورقيبة، فقد سبقه الى هذا مناضلون آخرون. و أنه لم يكن غير أداة صراع بين مصر “الناصرية” الراغبة في الهيمنة على الفضاء العربي و مشروع بورقيبة التحديثي، و ليس غريبا و الحال تلك، أن تونس اليوم في قلب الرحى بين نفس المشاريع الاجتماعية، القادمة من شرق النفط و الوهابية و ثقافة النقاب و ختان البنات، و ما غرسه بورقيبة في الشعب التونسي من شعور بالأنفة و انتماء الى عصره، و هو المشروع الذي كانت رافعته المدرسة التونسية الحديثة و الصحة و التنمية الاسرية و المرأة.
بورقيبة الجديد أبدا
إننا نعيش اليوم المرحلة الاخيرة و الخطيرة في مشروع بورقيبة، فكل النخب السياسية النشيطة في تونس اليوم لها صلة ببورقيبة حتى و إن نفت ذلك، بعضها يُناصب مشروعه العداء و يتقدم للشعب بديلا عنه، و لذلك يشعر بالكثير من الحنق عليه، حتى أن أكثرهم إدعاء للورع يرفض الترحم عليه أو ذكره بخير و الحال أن “الاموات يُذكرون بخير” مثلما تعلمنا من ديننا و من أخلاقنا. و بعض من أعدائه من اليسار و القوميين يتحركون بمنطق الثارات القديمة، إنها العجز عن تجاوز ألم السجن و العذاب و النفي القسري الذي تعرضت له أجسادهم الغضة عندما أكلت منها سجون بورقيبة و ايدي جلاديه، و هم في ذلك لا يزالون في ثقافة “الثأر الجاهلي” لان الحلم و العفو من الفضائل و هي من صفات النفوس الكبيرة، لقد ثاروا على بورقيبة لانهم رفضوا ان يظلوا رعايا في بلاد جعلتهم بثقافتهم و تعليهم أكثر وعيا بمواطنتهم، لقد طلبوا من بورقيبة أن يكون وفيا للبورقيبية التي عطل في السبعينات خاتمتها الطبيعية و هي دولة الحرية و الديمقراطية. و على النقيض من معارضي بورقيبة، يقف مريدوه و أنصاره فريقين، الأول يتعامل مع بورقيبة كدفتر ادخار يُريد احتكاره و استثماره ليعيد إنتاج نفسه في تونس بعد 14 جانفي، و الثاني يراه رمزا، ينظر إلى بورقيبة حلقة مهمة في تاريخ تونس الإصلاحي التنويري، بورقيبة عنده له في التاريخ فضائل لا تُنسى و له معايب كثيرة أغلبها من حاشيته و من مرضه و عجزه في أخريات حياته، لقد خذل بورقيبة مشروعه. و لكن هل كانت السياقات التاريخية ساعتها سياقات ديمقراطية و حريات؟؟ ام سياقات بناء قائم على التغيير الفوقي لبُنى اجتماعية متخلفة؟ هذا سؤال أخر يتعلق بالحدود المنطقية لمشروع بورقيبة.
اعتقد ان بورقيبة يظل دائما حيا، لأنه عصارة مرحلة من الأجيال التنويرية الإصلاحية في تونس من جهة، تغذت بدورها مع كل الأفكار التحديثية في أوروبا و تحديدا في فرنسا في منتصف الأول للقرن العشرين. ان الحكم على بورقيبة صار اليوم ممكنا. من خلال ما تركه في تونس من دولة قادرة على البقاء و من ارتقاء اجتماعي حققته المدرسة و الصحة و التنظيم العائلي و من خلال نخب في مختلف القطاعات كان تحرير المرأة و ارتقاء أبناء الأرياف في السلم الاجتماعي عنوانها. و هي النخب التي أنجزت الثورة. فثورة 14 جانفي هي نتيجة حتمية للتعصير الذي عرفته تونس بعد الاستقلال، تأتي في إطار مسار تاريخي وطني بدأ من منتصف القرن التاسع عشر، و الذي كان التونسيون يحلمون فيه بدولة عصرية قائمة على التقدم و الحرية.
ان الاعتراف ببورقيبة اليوم، هو اعتراف بالتاريخ. يأتي هذا الاعتراف للزعيم بورقيبة من خصومه قبل “اتباعه” لذلك فان تونس العصرية و تونس التقدم تونس العصرية هي في جوهرها تونس بورقيبة، لكنها تونس بورقيبة في القرن الواحد و العشرين.تجميع الناس ليس على مشروع بورقيبة بل على مشروع تونس، الذي كان بورقيبة مجذّره سياسيا و اجتماعيا. بورقيبة رحل و لكنه يظل الجديد الدائم.
Comments