تعميم “الكامور” .. برنامج من ؟
المهدي عبد الجواد
يبدو أن كرة الثلج التي أطلقها اتفاق الكامور بولاية تطاوين لن تتوقف على التدحرج، خالقة وراءها حراكا اجتماعيا “عفويّا” غير مؤطّر، يؤذن بمضاعفات خطيرة، ليس على اقتصاد البلاد فقط، بل وخاصة على كيانها كوحدة سياسية وهوية جماعية.
هناك من “صحراء” تطاوين، انظروا كيف صارت الصحراء “جهوية” تُحيل الى جهة وليس إلى وطن، انطلقت الإشارة، ومن قابس إلى قرقنة إلى القصرين والكاف وسليانة وجندوبة وقبلي وقفصة… انطلقت “قوافل” الشباب لإغلاق “الفانات” وسد الطرقات وتطيل الإنتاج، لسان حالهم “نحن نُريد” ما تحقّق في تطاوين.
فقد فتح “شباب الكامور” الباب أمام جنس جديد من النضال، يقوم على تحدّي السلطة المركزية، ورفض التعاطي مع المؤسسات، وتجاوز المنظمات والكيانات الاجتماعية والسياسية.
سلوك جديد، فتحته مسارات التفاوض في تطاوين، فقد استأنس “المُعتصمون” بمشورة أبناء الجهة من الكفاءات المُتعلّمة لتشكيل الوفد المُفاوض، خبراء قانونيون ومحاسبون قاموا بصياغة “تقنية” لمجموعة من الشعارات العامة، وترجموا في وثائق مضبوطة ودقيقة “رغبات” الشباب.
من هنا فان “تنسيقية الكامور” أصبحت تعد شكل تنظيمي جديد، ماهيته “الشعب يُريدُ”، تنظيم غير تقليدي، فليس حزبا ولا جمعية ولا منظمة، ولا وجود قانوني له، وليس تعبيرة على أي “عملية سياسية”، فلا شرعية يستندُ اليها، فليس ناشئا على انتخاب وتفويض، أعضاؤه “أعلنوا أنفسهم” واستمدوا شرعيتهم من “عصبية محلية”.
لا يتعاطى المُحتجون في هذه التنسيقيات مع الدولة ككيان جامع، ولا يؤمنون بوحدة الاقليم ولا بالماهية الجماعية للشعب، ولذلك فإن لبعض التسميات البسيطة دلالات عميقة، فاستعمال لفظ “صحراء تطاوين” بدل “الصحراء التونسية” استبدال فضّاحٌ للنوايا.
فليس الخطر يكمن في الآثار الاقتصادية والاجتماعية والمالية لهذه التحركات، بقدر ما يكمن في الاستهانة بوجود الدولة نفسها وبوحدتها الاقليمية وبوحدة شعبها، فهذه التنسيقيات لا تعترف ايضا بمؤسسات الدولة ولا حتى بالتنظيمات السياسية والمنظمات والجمعيات، إذ هي “تشكيل عفوي لحراك جماعي”، نعتقدُ انه التعبيرة الفُضلى عن شعار رئيس الجمهورية قيس سعيد في حملته “التفسيرية” القائم على “الشعب يريد”.
فهذه “التّشكّلات” تتأسس محلّيا بطريقة “جماهيرية” وتُحدّدُ مناويل التنمية والمشاريع التي يُراد تأسيسها، من خلال توطين الثروة الجهوية. هذا هو الشعبُ الذي صار يعرفُ ما يُريدُ، ومن جملة ما وعى به، ان نموذج الدولة المركزية انتهى. هي دفع لفرض تصوّر جديد للدولة ولكيفية تعاطيها مع هذه “الخلايا المستقلّة” التي تُعبّر على حالات وعي مُتفاوته وغير دقيقة ولا ضمانات لضبطها.
لقد وجدت الأحزاب السياسية نفسها خارج هذا الحراك في اكثر من جهة، بل ان “شباب التنسيقيات” يُناصبُها العداء تماما مثل الرئيس، بل ان المنظمات الوطنية أُجبرت بشكل من الأشكال على الالتحاق بمسارات التحرّكات، ولم تعُد لها فرصً تأطيرها او توجيهها. لذلك خفتت اصواتُها، بل ان بعض الاتحادات الجهوية، كما هو الحال في تطاوين، تبنت خطابا قصوييّا وجهويا في محاولة للحاق بشعارات التنسيقيات الشبابية.
ويكفي ان نذكر البيان الذي أصدره اتحاد الجهوي للشغل بتطاوين والذي يدعو الى التعاقد حصرا مع الشركات المملوكة لابناء الجهة وليس لغيرهم، أو تدخل بعضهم في قابس لإلغاء نتائج مناقصة شركة الــOMV، لأنها رست عند شركة مالكوها ليسوا من قابس، وتُعاني شركات الخدمات البترولية في صحراء تطاوين الى اليوم من “سياسات تمييزية” تُعطّل أعمالها وتُهدّد وجودها نفسه.
ان مسار التفاوض الذي خاضه الوفد الإداري والحكومي، والذي انتهى بقبول حكومة المشيشي بإمضاء اتفاق ثنائي بين الدولة التونسية و”تنسيقية الكامور” والتصريحات غير الموفّقة التي أطلقها السيد رئيس الحكومة، والتي لم تزد الأمر إلا سوءا، إذ أثارت توتّرا في بعض جهات البلاد، ففي الكاف تظاهر الآلاف ومثلهم في باجة والقيروان، واندفع شباب القصرين إلى حقل الدولاب في العيون والى ”فانة الغاز” بفوسانة، وأغلق الشباب المُعتصم المركب الكيمائي في قابس و حقل “بيتروفاك” في قرقنة.
للاشارة فان مراجعة العلاقة بالدولة المركزية ليس مشروعا عند قيس سعيد فقط، بل إن الكثير من التنظيمات والأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، تبني مشاريعها من اجل ذلك، وفيها من حاول القيام بذلك عندما وصل إلى السلطة مباشرة بعد الثورة.
أخيرا، إن هذه التنسيقيات والتنظيمات الجماهيرية، تجعل “اللجان في كل مكان” وتُهدّدُ كيان الدولة ووحدتها، وهو أمر خطير يفرض على كل القوى الوطنية المؤمنة، بان الدولة التونسية الموحدة وذات السيادة، يظل أهم منجزات الشعب التونسي، الذي يبقى شعبا موحّدا له سيادته التامة على ارضه وعلى ثرواته، التحرك للتنبيه لخطورة ما يتم سواء بوعي وادراك أو دون ذلك.
Comments