تونس اليوم .. الجمهورية المعطلة
المهدي عبد الجواد
شكلت انتخابات أكتوبر 2019، محطة أخرى، اعتقد التونسيون والمهتمون بالتجربة التونسية و أنصارها عبر العالم، إنها خطوة جريئة أخرى في طريق ترسيخ الديمقراطية، و جعل “الصندوق” هو الفيصل الأوحد لحل الصراعات و نزعات السلطة و كبح “نوازع العنف”. و رغم القبول – المرير- بنتائجها، فإن الآمال الكبيرة التي رافقتها شرعت في التبدّد. و الخطاب الثوري الذي طغى على حملات الأغلبية البرلمانية على تعدد ممثليها، علاوة على مقاربات الرئيس قيس سعيد الحالمة، بدأت تظهر حدودها في الواقع. و في المؤسسات الثلاث، صار الحديث علنيا اليوم على مآزق حقيقية، لان “حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الحقل”.
- الرئيس، تردّد في الداخل و عُزلة في الخارج
رغم موجة التفاؤل الكبيرة التي رافقت انتخاب السيد قيس سعيد، فقد حملته أصوات حوالي ثلاث ملايين شخص إلى قصر قرطاج، حتى ان بعض المرقبين اعتبر انتخابه أشبه ببيعة سياسية شعبية عامة، فان الأسئلة و الشكوك بدأت تحاصر الرئيس. شهر و نص مرا على انتخاب السيد قيس سعيد، و باستثناء بعض اللقاءات الودية مع وفود من شباب تونس وفدت عليه في قصره الفخم، و بعض الزيارات لمناطق لم تنلْ منه غير “الدعوات بالصبر” فان لا شيء جديد يُذكر. بل إن ثمة شعور يتنامى بعزلة دولية تُعانيها تونس. عزلة لم تعرفها طيلة تاريخها الحديث، و يُترجم شُحّ التهاني للرئيس أو برقيات التعزية و المواساة في بعض الحوادث هذه العزلة. و لعل التصريحات غير الموزونة و “الساخنة” المتعلقة بالقضية الفلسطينية و الخطابات القُصووية التي أطلقها بعض أنصار الرئيس أثناء حملته الانتخابية كان لها أيضا تأثيرُها الكبير.
يتزامن ذلك مع افتكاك رئيس حركة النهضة و رئيس مجلس النواب الجديد لسبق المبادرة الديبلوماسية من رئاسة الجمهورية، فطيلة أسابيع “السبات الرئاسي” كان السفراء يتوافدون على قصر باردو، مما أعطى انطباعا بكون “الشيخ” افتك فضاء كبيرا من سلطات رئيس الجمهورية. و لولا بعض السفرات الخاطفة التي قام بها السيد رئيس الحكومة المتخلي يوسف الشاهد لبعض العواصم التي تربطها بتونس علاقات مصالح عميقة، مندوبا على السيد قيس سعيد، لقلنا إن عزلة الرئيس كبيرة.
هذا التردد في المبادرة الديبلوماسية، يعود أساسا الى انعدام التجربة عند الرئيس من جهة، و لكن أيضا لغياب إستراتيجية واضحة عند فريقه، و لعل الأمر عائد إلى التأخر في تشكيل الحكومة، ولكنا نعرف إن السياسة الخارجية من صميم المهام الرئاسية الدستورية، و يكفي أن يقوم الرئيس بلقاء كبير مع رؤساء البعثات الديبلوماسية، و أن يقوم بسلسلة من اللقاءات مع ممثلي الهياكل الأممية و الإقليمية و الاقتصادية حتى يبسط تصوراته و يُحدد الخطوط العريضة لسياساته.
و في انتظار ذلك فان السيد قيس سعيد يدخل تدريجيا في النسق السياسي الذي ترشّح مبشّرا بكونه بديلا عنه، احتفالات وطنية و عيد الشجرة و مناسبات تقليدية مألوفة دأبت عليها الرئاسة منذ عهد بورقيبة.
و بالتوازي مع ذلك، تتكلم الوسائط بلسان قيس سعيد. فرضا شهاب المكي المشهور برضا لينين و الذي يعدّه البعض المُعبّر على مشروع “الإمام الصامت” يُبشّر في ظهور تلفزي نادر بـــنهاية زمن الوساطات نهاية زمن الأحزاب و زمن ممارسة السياسة و كيفيات التنظم. نهاية النماذج بما في ذلك الوساطات الإعلامية. فالعالم الجديد دخل دون وساطات حيث تمت اشاعة كل شيئ و ثمة غايات و أهداف داخل الدولة السياسية نحو الانتقال فعلا إلى دولة المواطنة المشاركة في إدارة الشأن العام و التفكير في حلول للشأن العام، داعيا إلى التأسيس للسلطة المحلية الحقيقية. و يدعو بالمناسبة الى مراجعة للقانون الانتخابي و إعادة التفكير في سلطات إدارية و جبائية في المحليات و الجهات و الأقاليم، و ثمة أخبار تتحدث على بعث مشروع سياسي جديد يحمل اسم “حراك 13 اكتوبر”. و ينظر الجميع الى هذا المشروع بالكثير من الريبة و الشك. و نعتقد ان الحكم له او عليه تستوجب نقاشا في ورقة اخرى. و لكنه في كل الحالات يظل مسالة “نخبوية” نقاشها لن يُفيد الحفاة و العراة في شيئ.
- الحكومة… السقوط الحتمي
مُتعثّرأيضا و غامض، هو مسار تشكيل الحكومة. فالسيد الحبيب الجملي الذي جاء من حيث لا يدري المُتابعون للشأن السياسي، وجادت به علينا انتخابات داخلية لمجلس شورى حركة النهضة، يبدو بعد شهر تقريبا من تكليفه يُراوحُ مكانه، بلا بوصلة و لا استراتيجيا واضحة في “تركيح” الحكومة. و يبدو امام خيارات محكومة مُسبقا بالفشل. فأول الاختيارات هي حكومة “ثورية” تتناسب مع “وهم” استجاع بريق الثورة، و على ما في هذا التوجه من “سحرية” فانه لا يُمكننا تشكيل حكومة ثورية دون ثوريين، فأغلب أدعياء الثورية اليوم لم يُشاركوا فعلا في حراك 17 ديسمبر/14 جانفي. هذا علاوة على ما يُمارسه حزبا التيار الديمقراطي و حركة الشعب من ابتزاز سياسي للسيد الجملي، ابتزاز محاصصي “يتخفى” وراء شعارات النزاهة و الثورة و حكومة الرئيس. هذا الخيار الاول سيجعل حكومة الجملي في وضعية هشّة داخليا، ووضعية عزلة خارجية. وهي وضعية لن تسمح لها في اعتقادنا بالصمود طويلا، خاصة و ان منسوب الآمال و الامنيات المُعلّقة عليها كبيرة جدا.
اما الاختيار الثاني، فهو “شراكة” تُخفي “تحالفا” مُقنّعا مع قلب تونس، و هي وضعية تبدو أصعب من الاولى، إذ سيجد السيد الجملي نفسه و حكومته في مواجهة معارضة داخلية شرسة و كبيرة، اضافة الى “صعوبة” ادارة التسويق السياسي للحكومة خارجيا. خيارات محدودة تجعل هامش المناورة ضيقا، و تفضح طبقة سياسية كبيرة، تُقدّم مصالحها الحزبية على المصالح العامة، و تهتم بادارة خلافاتها اكثر من ادارة الشأن العام، و هي عاجزة على تجاوز عداواتها و ثاراتها و جراح صراعات ايديولوجية و انتخابية. ازمة تشكيل الحكومة قد تطول و نتائجها لن تكون “حميدة” في كل الحالات.
- برلمان…. كل الكوابيس
لا يعترف التونسيون عادة بمسؤوليتهم في اختيار ممثليهم، لذلك بدت مشاهد الصراع في البرلمان غريبة، و بعثت في نفوس الكثير منهم مشاعر “القرف” و الاستهجان. فقد غاب خطاب التعقّل و أصوات الرصانة على قلتها، وسط الضجيج و الشعارات و الاشارات و اللافتات و الاعتصام. و حل التنابز بالالقاب محل البرامج. و صار السؤال الابرز هو “هل سنظل خمس سنوات على هذه الحال”؟؟
و الاغرب في كل هذا هي الوضعية التي وجد السيد راشد الغنوشي نفسه فيها. فقد قارع بورقيبة و رجال دولته و بن علي، و ادار حوارا توافقيا مع الباجي، ويجد نفسه اليوم وسط مشاهد اقرب الى “السيرك الصبياني” و لا ندري حقيقة اية اضافة سياسية يمكن ان يجنيها السيد راشد الغنوشي في رئاسة المجلس، خاصة و ان بوادر فشله في ادارة صراعاته لاسباب عديدة بعضها يعود الى التجربة و بعضها الآخر الى عامل السن و سببها الرئيس الرفض الكبير لتواجده في هذا الموقع حتى من بعض المنتسبين الى التيار الاسلامي.
بين عبير موسى و ائتلاف الكرامة و حزب الرحمة و نواب التيار الديمقراطي، ستشتعل نيران صراعات لا نهائية، لا نحسب التونسيين سيُتابعونها ألا من جهة “الشو الإعلامي” و الغائب الاكبر هي المصلحة العامة. و لقد تابع التونسيون بذهول مداخلات الكثير من النواب في مناقشة قانون المالية التكميلي او قانون ميزانية الدولة، و اكتشفوا الفقر المعرفي و الجهل العميق بأبسط أبجديات الاقتصاد و المالية علاوة على ضعف الثقافة السياسية و انعدام الاحترام لهيبة المجلس رمز هيبة الشعب و عنوان إرادته.
الى أين؟
ثلاث سلطات رئيسية تشكو وهنا و هي شابة. وهن يجعل صورة الديمقراطية التونسية صورة شاحبة، تطلب تجديدا و إبداعا حقيقيين، نعتقد ان النخب التونسية قادرة عليه. و المدخل المباشر الى ذلك هي “حالة وعي” حقيقية بتحديات المرحلة و خطورتها، مع ما تتطلبه من حتمية صياغة تعاقدات سياسية و اقتصادية و اجتماعية وأخلاقية بين مختلف الفاعلين السياسيين و الاقتصاديين و الاجتماعيين في اقرب الآجال. ميثاق وطني جديد يمنح التونسيين مشروعا جماعيا وأملا مشتركا ويحفظ الدولة و يحمي مؤسساتها.
Comments