تونس اليوم .. الديمقراطية الفاشلة
المهدي عبد الجواد
جاء في الاناجيل “من ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشّوْكِ عِنَبًا، أوْ من الحــَسَكِ تينا”
لم يكن أغلب المتفائلين يعتقدون نتائج افضل في مسار تشكيل الياس الفخفاخ لحكومته. فمؤشرات التعطّل السياسي، تضرب في الحقيقة بنية النظام السياسي الذي صاغه دستور 2014، بل و تطال التنظيمات الحزبية، و الفاعلين السياسيين و الحزبيين. و ثمة دلائل كثيرة تقود الى توقّع ما هو أسوأ، فنحن في تونس نسير منذ مدة “على حافة الهاوية”. ان وضعا عبثيا يتم دفعنا اليه دفعا، وضع يتم فيه الانقلاب على الاحزاب و على نتائج الانتخابات، و من شأن ذلك دفع التجربة التونسية الى مأزق عميق، قد تكون الفوضى نتيجته الحتمية. فتونس تعيش وضعية معقدة، تكمن مقدماتها في الكثير من أسس بنائها الديمقراطي نفسها.
قوانين فاشلة
المأزق الحالي الذي نعيشه، والمؤهّل ليزداد حدّة، هو نتيجة طبيعية لثلاث قوانين أساسية، تُنظّم الحياة السياسية و الحزبية في تونس. مرسوم الاحزاب عدد 87، و النظام الانتخابي القائم على أفضل البواقي، و النظام السياسي المركّب بين شبه برلماني/شبه رئاسي و الذي تتنازعُ السّلطات معه عشرات الهيئات الدستورية و مئات المجالس المحلية، سُلطة “موزّعة” بين قبائل لا روابط بينها غير بعض الشعر و “الكليشيهات” المتعلقة بالوطنية و الوحدة و المصلحة، فلا مشروع وطني جامع يضبط الفضاء الذي تُطبّق فيه هذه القوانين.
مرسوم الاحزاب، جعل أنبل أشكال التنظم السياسي و التصدي للصّالح العام، يُصبح عملية اجرائية مستسهلة، حتى صارت الاحزاب تتناسل كالفقاع، دون ان تكون لها رؤى و لا برامج، لا فرق بينها غير “النفور” النفسي و العراك المزاجي. و نظام الاقتراع زاد في تفتت الحياة الحزبية، و ولّد مشهدا برلمانيا مُشتّتا و فسيفسائيا، و أهينت “الهيبة” البرلمانية فصار عندنا نواب ب300 صوت و ب1500 صوت، و تداخلت العوامل العشائرية و الجهوية و المالية و الانتماءات الى “الهويات” الطارئة، مثل المهربين او المهنيين او الجمعيات الرياضية و أضحت أيسر السّبل للوصول الى “برّ الامان”.
احزاب و نُخب فاشلة
انخرطت النّخب التقليدية سُلطة قديمة و معارضتها في عُراك عبثي، كان أقرب لتصفية الثارات التاريخية القديمة على التفكير في صياغة “عقد سياسي و اجتماعي” جديد. و عادت العائلات السياسية التقليدية، الدستورية و الاسلامية و اليسارية و القومية الى معارك القرن الماضي، في جو مشحون بالحقد المرضي، العاجز على النظر الى تغيّر الواقع الاجتماعي و التبدّل في شخصية التونسيين و التونسيات.
هذا الاحياء لمعارك الماضي و مناكفاته المرضية، سمح لمن لا تجربة سياسية له بالتسلل الى الاحزاب، فصارت الاحزاب مرتعا للزبونية، و بيع الذمة و الاجساد والانتهازية و “دبّارة الرؤوس” و اخترقتها قوة المال المتدفق من الداخل و الخارج و لوبيات العشائر الجهوية، و تكفّلت معاهد التدريب الامريكية و الاوروبية، بصناعة “الزعماء الجدد”، بابتسامات على المقاس و ربطات عُنق أنيقة، زعماء الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي.
خلق كل ذلك ارستقراطية حزبية تتداور المنافع فيما بينها، دون تواصل حقيقي مع ابناء الشعب الكريم، المنسيون في الارياف الخلفية. و انعكس ذلك على نسب المشاركة و توجهات الاقتراع، فحصلنا على اغلبيات واهنة عاجزة على الاجتماع، او التخاطب فما بالك بتشكيل حكومة.
مشاريع غائبة
غاب في تونس الحديث الجماعي على مشروع وطني جامع، وانخرط الجميع، في مناقشة تفاصيل اجرائية، يُفترض ان يهتم بها المختصون في الادارة التونسية. غاب مشروع يسمح للتونسيين بالحُلم. و ليس انتخاب قيس سعيد رئيسا الا دليلا على غياب هذه الرؤى الكبيرة.
فالرجل بلا مشروع و لا برنامج حشد حوله الملايين. لقد كان كمشّائي العصور القديمة أو دعاة الباطنية. لا يتكلم الا ليزيد الغموض غموضا، ورغم ذلك قدم للناس صورة اخرى للسياسي الزاهد في الدنيا و المتعفف على ملذات السلطة، فتبعه الخلقُ، و هو درس للذي يُريد ان يعتبر.
لقد استطاع جيل الاستقلال اقناع التونسيين و التونسيات بمشروع “الجهاد الاكبر” فانخرط الجميع فيه، و تحمّلوا لسنوات وطأته عليهم، و تبرّعت النساء بحليّهن لتأسيس البنك المركزي، و الرجال بأرضيهم لبناء المدارس و المعاهد، فبم قد يتبرّع التونسيون و لأي هدف.
انتخابات عبثية
ان الفشل في تشكيل الحكومة، أمر مألوف في الديمقراطيات و ثمة تجارب سبقتنا بقيت بلدانها أشهرا طوالا بلا حكومات، تجاوز بعضها سنوات (ايرلندا و بلجيكا مثلا). انه مسارات دستورية توقعها المُشرّع. و لكن “العبقرية” التونسية تُعيد دائما “اكتشاف العجلة”. فكان المرور الى الفقرة الثانية من النص الدستوري، انقلابا دستوريا حقيقيا على نتائج الانتخابات.
لقد تمّ الدفع بالياس الفخفاخ، في عملية ترشيح و اختيار تفتقد الى الذوق الانتخابي، فالرجل رئيس حزب شارك معه في الانتخابات الرئاسية و التشريعية و قال الناس فيهم كلمته، و دفعوه بعيدا حتى لا يُشارك في ادارة أمرهم. لقد رأى التونسيون ان الفخفاخ لا يُمكنه ان ينجح في حكمهم. فرددناه اليهم رئيسا للحكومة بصلاحيات تتجاوز رئيس الجمهورية و البرلمان.
ان اختيار الفخفاخ سخرية من الانتخابات. وزاد المكلف فاقصى كتلة قلب تونس، وهي الكتلة الثانية في البرلمان، و استدعى للحوار أحزابا بالكاد يتذكرها التونسيون لا تتجاوز مقاعدها اصابع اليد. ثم شكّل حكومة لم تقبل بها حركة النهضة الحزب الأول في الانتخابات و قاطعها القلب، و قرّر المرور بقوة في البرلمان، معتقدا انه يستطيع فرض ارادته على الجميع. و استنجد بشرعية رئيس الجمهورية لاستبدال الشرعية الانتخابية، و سيستقوي باتحاد الشغل و اتحاد الأعراف، اللذان سارعا منذ البارحة، و قبل الشروع في الوساطة، بالتأكيد على ان “تونس ليست ملكا للأحزاب”.
اننا نعيش فعلا عصرا جديدا، عصر يُشارك فيه الجميع في لعبة “الغميضة الديمقراطية”. يُناورون و لكنهم يرفضون التعايش. يشاركون في الانتخابات و لكنهم يرفضون نتائجها. يتحركون داخل الدستور و لكنهم يؤولون فصوله لصالحهم.
ثمة الكثير من سوء النية بين الفاعلين السياسيين و الحزبيين، و ذلك هو التفسير الأول لحال القطيعة بين التونسيين و رجال السياسية و لقلة الثقة في الأحزاب. ان الديمقراطية تقوم اساسا على الاحزاب، و حصرا على آلية الانتخابات و على القبول بنتائجها مهما كانت معاكسة لرغباتنا.
نحن اليوم في مفترق طريق جديد، يُهدد بنسف المكتسبات القليلة التي تراكمت في المجال السياسي. و كل تفكير اقصائي او انقلابي على نتائج الانتخابات او على الفصول الدستورية هو من قبيل العبث. عبث كرهه التونسيون. عبث يُنذر بثورة حقيقية قد تنسف بكامل المنظومة الحالية، و تدفع بنا حتما نحو فوضى أخرى لا نعرف نتائجها.
Comments