تونس بين حمّى إعلام المغالطة وحمّى الشّعبوية
شعبان العبيدي
من البيّن للمتابعين للشأن التّونسيّ أنّ البلاد لم تقطع منذ الثورة مع المنظـــومة القديمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا. إذ استطاعت هذه المنظومة الموروثة أن تنتعش وتستعيد أنفاسها في ظلّ ما أتاحته لها الفوضى السياسية طيلة عشر سنوات. وبتواطؤ مع مناصري الـــــــولائية لهذه المنظــــومة من جهة والسياسيين القادمين الجدد للفضاء العام الّذين أصبح همّهم الوحيد تثبيت الأقــــدام في ركــــــاب السلطة بمحاولة خلق ضرب من زيجة المصلحة بين مشروعها وبين المنظــــومة القديمة، وعلى رأسها خاصّة حركة النّهضة، وإن كانت تقدّم دفاعها عن هذا الوضع بالدّفاع عن الاستقرار، وهي كلمة حقّ أريد بها باطلا.
كان من الطّبيعي في ظلّ هذه المعركة السياسية المتواصلة حول السلطة والسّعيّ إلى وضع اليـــد على المؤسّسات الإعلامية والخاصّة والإذاعات والجرائد أن يقع إخضاعها للمزاد في ســـــــــوق المضاربة السياسية والمالية التي تقودها لوبيات الفساد، وأن تسود فيها التسميات المشبوهة لأشبــــــــاه الصحافيين الحقيقيين فحلّ محلّهم أشباه الخبراء والإعلاميين و المشرفون على إذاعات اعتمادا على مبدأ الولائية وخدمة لأجندات سياسية، في الوقت الذي تراجع فيه حضور الصّحافيين المحترفين و أغلق الباب أمام مئات الشباب من خرّيجي معهد الصحافة وعلوم الأخبار. ليتعمّق تبعا لذلك انتشــــــــار ثقافة الزّبونية والتهريج والإعلام السائل، سعيا وراء المحتوى المجاني وتحقيقا للرّبح المادّي حتّى علــــــى حساب الموضوعية وأخلاقية المهنة واحترام قيم الجمهورية.
وانطلاقا من هذا الوضع الفوضوي الذي استمرّ طيلة عشر سنـــوات، وفي غيــــاب سلطة تعديلية قويّة استمرّ الإعلام التّونسي المسموع والمكتوب والمرئي في تعميق أزمة البلاد الاجتماعيـــــة والسيـــاسية والدّيبلوماسيّة. بل تحوّل بعد الثورة من إعلام مدجّن لخدمة النّظام إلى إعلام سائــل مغالط يتغــذّى من ترويج الإشاعات واختلاق أخبار خــــــــــرافية وتغذية نفسه ممّا تروّجه وسائل التواصل الاجتمـــاعي والوسائط الرّقمية لتدفعه نحو منحدر خطير تحوّلت معه إلى مصانع للرداءة وتقدّم محتوى مجانيّا على حساب القيمة المضافة للقرّاء والمشاهدين.
ولعلّ المأزق الأخير الذي وضعت فيه بعض الصّحف المكتوبة و بعض القنوات التلفـــزية الخاصّة بما وشّحت به برامجها الحوارية أو ما جاء على ألسنة بعض خبـــراء الصّدفة من تأكيد وتـــرويج لأخبــــار فيسبوكية حول تأهب عناصر إرهابية في قاعدة الوطية الليبية لدخول تــــونس قد مثـــل تهديدا لزعزعة علاقات الأخوّة والتعــــاون بين البلدين خاصّة بعد ما جــاءت الـــردود الاجتماعية والسياسية اللّيبية معبّـــــرة عن رفضها لهذه الاتّهامات و داعية السلط التونسية إلـــى بيــــان موقفها الرسمي، وهو ما وقع الإعلان عنه في بيان ختامي لاجتمــــاع بين الوفديـــــن الليبي والتـــونسي خلال الأسبوع الفارط.
وإن كانت هذه القضايا الأمنية الإقليمية يتمّ التعامل معها على مستوى مخابراتي سريّ بين الدّول وليست موضوعا للموائد المستديرة والتّنجيم. هكذا يعمل إعلام الإثارة والمغالطة على تعميق أزمة البلاد ومزيد العمل على ضرب علاقاتها الديبلوماسية المتينة منذ عقود وتشويه صورتها في الدّاخل والخارج.
إذا نحن حاولنا أن نبحث عن مبرّرات حمّى الدّجل الإعلامي اليوم في بلادنا، وخاصّة خـــــــلال الفترة الأخيرة، لا بدّ أن ندرك أنّه وجد أرضية مناسبة لتكثيف عمليات المغالطة خدمة لأهـــــــــداف سياسية وأيديولوجية.
ومن الأكيد أنّ ما روّجه قصر قرطاج خلال هذه السّنة من محاولات اغتيال للرئيس عبر رسالة مسمومة أو ما جاء على لسان الرئيس بعد إقرار حــالة الاستثناء من تعرّضه لمحاولات اغتيال مهدّت الطريق وأسالت لعاب لوبيات سياسية لتحــــويل هذا الموضوع الجديد إلى لعبة قصد التأثير على قصر قرطاج.
وهذا ما يبيّن أن حمّى الفورة الشعبوية التي عرفتها البلاد بعد حـــــراك 25 جويلية، وما رافقه وتبعه من تعبئة انفعالية، عمّقتها كلمات الــــــــــرئيس اليومية تقريبا والقائمة على التهديد والسّخـرية من السياسيين والأحزاب ونعتهم بشتّى نعوت التهكم والاستهزاء وتوعّده خـــلال زياراته –التي تبــدو معـــدّة ومبرمجة – وفي ظلّ غياب حكومة تعمل ضمن مؤسّسات واضحة وطبقا لإجراءات قانونية قد دفعت البلاد هي كذلك إلى أفق غامض.
فليس غريبا في ظل هذا الضّجيج المتعالي سياسيا وإعلاميا وعلى شبكات التّواصل أن يجد الإعلاميون المغالطون والباحثون عن الإثارة والفوضى المجتمعية إلاّ الدّفع نحو مــــزيد العمل على تعميق جراح البلاد بضرب علاقاتها الديبلوماسية بالتهجّم على الدّول الصديقة والمجــاورة.
علينا اليوم مع هذه الإعلام السائل الذي تفنن في إنتاج الرّداءة والعنف والإثارة والإشاعات و تهدـــيد أمن المجتمع الداخلي وعلاقات الدولة التونسية أن نقلق بشأن مستقبلنا: مستقبل أبنائنا وهم يعيشـــــــون إعلام الرداءة وإنتاج التفاهة والأسطورة في مرحلة خطيرة تمرّ بها البلاد وغابت فيها السّلطة العليا المنظمة مع تواضع اداء الفاعلين السياسيين، وكذلك المس مستقبل علاقاتنا الدّولية بما بات يفتحه هؤلاء الدخلاء وخبراء الكذب الذين فتحت لهم فضاءات الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب للتخيّــل وبثّ المغالطــات جـــريا مع الموضة الثقافية الجديدة في صناعة البوز وتسميم الأجواء في ظــــــــلّ غياب الرّقابة وتطبيق القانون ضدّ إعلام الفضائحيّة والبؤس القيمي.
Comments