تونس: جمهورية “الثرثرة الديمقراطية”
المهدي عبد الجواد
يتعثر الانتقال الديمقراطي في تونس على كل الصُّعُد، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ودستوريا، ويتعطل كل شيء غير الكلام، حتى صارت تونس مهرجانا جماعيا للغْوِ والهذْر. فالقول والأقاويل تنتعش وتتكاثر بشكل غير مسبوق. وإذا كان جدودنا القدامى ارجعوا ذلك الى كون “اللسان بلا عظم” يسهل عليه التحرك في كل الاتجاهات، فإن ما يحصل في تونس امر غرائبي، فلا أحد “يُديرُ لسانه في فمه قبل التكلم”. لقد تحولت حرية التعبير الى حرية كلام وتقويل وتقوّل وأقاويل، وكلها أدخل في معاجم الثرثرة والإشاعة، إذ تشترك في عدم النفع. لقد تحولت الديمقراطية التونسية إلى “ديمقراطية الحديث” وتحول السياسيون الى “مُحدّثين”، وهي في كل ذلك كلام في كلام مثلما قال الجاحظ رحمه الله.
1/
اول الآيات البينات على دخولنا بإطمئنان الى عوالم الكلام غير النافع، ما يأتيه رئيس الجمهورية قيس سعيد. فكلما تكلم أمام شاشات التلفاز ازداد إلغازا وغموضا، وكلما رُمْنا منه إيضاحا ازداد أمامنا غموضا، وابتعد بوضوح على مهامه وقطع مع الصورة التي ينتظرها التونسيون من رئيس جمهوريتهم. يتكلم الرئيس دون مراعاة لواجب احترام القوانين وسلطة القضاء وحقوق المواطنة، فيقسم الناس الى أخيار وأشرار وينتصب قاضيا يوزع البراءة والاتهامات، وقسيسا يقسم الطهارة والدنس وقديسا يقسم التونسيين بسن صالحين وفاسدين. يتكلم الرئيس بلا بيّنات ولا وثائق ودون استناد لأحكام القضاء او أبحاثه….يتكلم ليرضي نفسه وأنصاره، وعلى بعضه يدورُ كلامُه.
2/
بعد الرئيس طلع علينا رئيس الحكومة السابق الياس الفخفاخ بعد اتهامه في قضايا الفساد ليقول لنا “يبطى شوية” ويحدثنا بتعالي لافت على براءته، التي يقوم المُتآمرون في الغرف الخلفية واللوبيات بالعمل على تشويهها، “شعب الفاسدين” غير القادر على التمييز والعاجز على حسن الاختيار يتحالفُ مع “الكناطرية” والمرتشين لإسقاط الفخفاخ باطلا. وينسى رئيس الحكومة أنه رأس السلطة التنفيذية وعلى اطلاع على الملفات، وهو محمول على عدم الانتصاب محلّ القضاء، وأن لا يتكلّم دون استناد للأحكام.
محمد عبو، الرجل الذي خاط فمه ليتوقف على الكلام يشرع بدوره في “الاسهال” الكلامي. يتنقل من قناة الى أخرى ويُصرّح في اكثر من منبر بضرورة ان يُسارع الرئيس لاستعمال الجيش الوطني، لحسم الموقف السياسي في البلاد. يدعوه بان يتجاوز القانون والدستور فيزجّ بذوي “الشبهة” في السجون. وكان محمد عبو سارع عشية إقالة حكومته بتوجيه التهم الى كل الطبقة السياسية، فجعل الجميع فاسدين ومتواطئين مع الفساد، إلاّه الخير الطيب النظيف. اتهامات بلا قرائن وتعكس رغبة في التشفي من كل الطبقة السياسية والحزبية، وانتقام شعبوي من القوى السياسية والخصوم الذين يحملهم عبو “وزر فشله” الفظيع. تكلم محمد عبو وأطلق النار على الجميع دون ان يلتزم بواجبات التحفظ، ولا قرائن الادانة وهو المحامي والحقوقي والمناضل السابق من اجل حرية التعبير، التي يبدو انها عنده حرية “الكلام” الذي ليست غايته النفع والنجاعة بل الإيذاء.
3/
مجلس نواب الشعب هو “سوق عُكاظ”، يجتمع فيه جمهور من نوّاب ينشغلون بالخطب العصماء أمام عدسات التصوير والكاميروهات وشاشات الهواتف الجوّالة. انخراط جماعي في “أغورا” الثرثرة الوطنية، كلام في كلام بلا نفع ولا فائدة، مناكفات وجدل وخطابة “لم تقتل ذبابة”. بل إن أعضاء “دار الندوة” يخرجون على واجباتهم الأخلاقية ويدخلون بيوت الناس بلا استئذان حاملين رسائل الحقد والكراهية والتكفير وترذيل بعضهم البعض، ناهيك على سوقي الكلام ووضيعه.
لذلك يبدو ان حرية التعبير تحولت الى ثرثرة جماعية تتطلب وقفة تأمل من الجميع لان الامر لم يعد يتعلق بثرثرة محلية بل تجاوز خطرها الداخل التونسي ليمس علاقات تونس الخارجية ومصالحها الإستراتيجية. إذ يعمدُ الكثيرُ من الساسة الى “التكلّم” في مواضيع لها مُضاعفاتها الخارجية مثل التصريح بمعاداة بعض الدول كقطر او تركيا او مصر او فرنسا او غيرهما، ويتحول الساسة الى “نُشطاء” مجتمع مدني يبنون أحكامهم وتصريحاتهم ومواقفهم السياسية على “تدوينات” فايسبوكية احيانا كثيرة.
4/
منذ أيام قليلة كذبت سفارة فرنسا تصريحات محسن مرزوق. إذ اتهم رئيس حركة مشروع تونس مؤسسة الرئاسة بالعمل على إفشال زيارة العمل التي أداها رئيس الحكومة هشام المشيشي الى فرنسا. وهو ما استدعى إصدار تكذيب رسمي للأمر من سفارة فرنسا بتونس. وبقطع النظر على مصادر محسن مرزوق في هذا الخبر وعن مدى صحة المعلومة، فآن ما أتاه من تصريح لم يكن لائقا به، وهو الذي كان الجميع يضعه فوق “الشعبوية”. تصريح مرزوق لا يمس من رئيس الحكومة فقط، ولا الرئاسة بل من مصالح تونس الخارجية. وهو الذي يعلم اكثر من غيره ان “ليس كل ما يعلم يقال”.
واستكمالا لصورة “الثرثارين الوطنيين” ها ان المحامي منير بن صالحة ينضم للجوقة، ويرسم بحسب رسالة ليلى بن علي سيناريو يعود به الى واجهة الأحداث. ورغم أننا لا نملك حقا دلائل على كون الرسالة اامنسوبة لليلى بن علي التي تكذب تصريحات منير بن صالحة المحامي السابق للرئيس الأسبق بن علي صحيحة، فأنها تدعم وجهة النظر التي تجعل من تونس “جمهورية المتكلمين”.
رسالة ليلى بن علي نشرها المحامي محمود المهيري المستشار السابق للرئيس بن علي. وفيها تتهم ارملة بن علي المحامي بن صالحة بتسريب التسجيل و افشاء السر المهني وتلمح الى امكانية تتبعه قضائيا
ليلى بن علي، اعلمت الراي العام بكون العلاقة التعاقدية انتهت بوفاة بن علي وان ارثه صار التصرف فيه من حق عائلته دون سواه، نافية ان يكون بن علي قدم وثائق او ارسل شيئا للمحامي بن صالحة، الذي عرض حسب روايتها خدماته على بن علي مجانيا.
5/
في المُحصّلة يبدو ان رياضة التكلّم صارت صناعة وطنية “ثقيلة”. زادها “الانفجار” غير المسبوق في حرية التعبير، وغياب التشريعات التي تضمن عدم المساس بحُرمات الأفراد وكرامتهم وشخوصهم. واسهم الكثير من الإعلاميين في تقوية هذه الموجة العالية من “التكلّم” بلا حساب. وعلى الجميع ان يُدرك المخاطر الحقيقية لهذه “الثرثرة” ليس على قطاعات كثيرة تتضرّر بالإشاعات فقط بل حتى على المناخ الوطني العام، سياسيا واقتصاديا، وحتى على نفسية التونسيين، فليس غريبا والحال على ما هو عليه، ان تكون الثقة منعدمة في هذه الطبقة السياسية “الثرثارة” وفي مستقبل تونس وفي الديمقراطية نفسها، وحتى لا ينطبق عليهم قول لقمان لابنه ” يا بني إني قد ندمت على الكلام، ولم اندم على السكوت”.
Comments