الجديد

تونس .. نحو الديمقراطية الفاشلة والدولة المارقة ؟

المهدي عبد الجواد

لا يبدو أن التونسيين مهتمين كثيرا بتداعيات العملية الإرهابية التي جدت في مدينة نيس الفرنسية، والتي قام بها إرهابي تونسي. ورغم أن سير الأبحاث مازال في بداياته، و الإرهابي المذكور مازال يُعالجُ ولم يتم الاستماع إليه – حسب الرواية الفرنسية الرسمية – إلى اليوم، فإن مؤشرات عديدة بدأت في التواتُر، وهي منفتحة على تطورات كبيرة قد تكون لها نتائج كارثية على تونس اقتصاديا وأمنيا. فلا يبدو ان الحُظوة التي كانت تتمتع بها “ديمقراطية الاستثناء” التونسي مازالت قائمة، ولا يبدو ان ما قبل العملية سيكون نفسه ما بعدها.

  • الديمقراطية الفاشلة

تعيش تونس لحظة عسيرة. على كلّ الأصعدة وخاصة منها السياسية. فقد تحوّلت التجربة الديمقراطية تدريجيا نحو “ديمقراطية أوليغارشية” تتبادل فيها نُخبٌ حزبية وسياسية توزيع المنافع في غفلة عمّا يُعانيه عموم التونسيين وخاصة القوى والفئات التي كانت وقودا وحطبا للثورة نفسها. وتم الاستيلاء على “مسار الثورة” نحو معارك ثانوية من أقلية غريبة على سياقات تاريخ تونس الاصلاحي والعصري، جعلت المشهد الحزبي والبرلماني سخيفا، وصعّدت إلى أعلى مراتب الدولة شخوصا هواة، لا يتمتعون بأي وعي بخطورة اللحظة التاريخية ولا رهاناتها، ولا خبرة لديهم بنواميس الدولة وآليات اشتغالها، ولا اهتمام عندهم بمشاغل عامة التونسيات والتونسيين.

يكفي ان نستحضر طبيعة الصراع السياسي الدائر في تونس اليوم، و مضامينه لنعرف بيُسر ان هذه “النّخب” هي نكبة تاريخية حقيقية. ففي الوقت التي يُشعل فيه فيروس الكورونا صدور التونسيين المُحتاجين لأجهزة تنفّس وأسرة إنعاش، وفي الوقت الذي نزلت فيه نسبة النمو الى مادون الــ 21%  سلبي، وارتفعت فيه نسبة المديونية الى 93%، وعجز الميزانية الــ 14%، يجدُ السياسيون مُتّسعا من القوت للنقاش حول تغيير مرسوم الإعلام للسماح لبعض القنوات المارقة بتقنين تواجدها، وتحشُد كتلٌ بعضها البعض للمرور بقوة في بعض القوانين المُثيرة للجدل، ويتسابق آخرون حول لوائح تهتم بالداخل الليبي والعلاقة مع قطر أو تركيا أو تصنيف جماعات أجنبية، وتتلهى أخرى بترف النقاش حول “أسطورة الأموال المنهوبة” والعدالة الانتقالية بعد عشر سنوات من الإطاحة بنظام بن علي وحُكم الثّوار. بل إن معارك الرياضة صارت تقسم مجلس نواب الشعب وتُثير اهتمام نوابه أكثر من قضايا خلق الله.

لقد تكرّست في تونس ديمقراطية الفاشلين، فمع القطيعة التامة مع هموم الشعب، ثمة قطيعة أخرى مع المثقفين والنّخب وعموم الجامعيين والأكاديميين. وصار مُخجلا مشاهدة تدخلات نواب الشعب، والاستماع إلى خُطب بعض الوزراء والاستماع إلى بعض الإعلاميين المُنخرطين في معارك “اللوبيات”، صار كلّ ذلك باعثا على القرف لدى شعب تبلُغ نسب التّمدُرُس فيه أكثر من 97%، وترتفع أعداد العاطلين عن العمل من أصحاب الشهائد الجامعية إلى ما يُقارب المليون. لم تعُد الثورة والديمقراطية والحرية مُلهمة للكثير من التونسيين، بل صار “الكُفرُ” بها أمرا مُتصاعدا، يُفسّرُه الحنين المُتزايد إلى عهود الاستبداد الماضية، والسخرية المُرّة من نُخبها.

تحوّلت الديمقراطية تدريجيا إلى كائن “مِــسْخٍ” لا تُنتجُ غير الرداءة والفساد والإرهاب، ولا ينمو فيها غير الفقر والإجرام و الخوف. أُفرغت هذه التجربة من كلّ مضامينها الاجتماعية والإنسانية وتحولت إلى تجربة فاشلة في الحكم والمعارضة.

  • الدولة المارقة

لم تستطع السودان التخلّص من تبعات تفجيرات نيروبي ودار السلام سنة 1998 إلا منذ بعض أيام، ودمرت أمريكا أفغانستان لان تفجيرات 11/9 تم التخطيط لها على أراضيها. ويبدو إن تونس ستكون في قلب عاصفة قضائية وأمنية قريبا. فوزير الداخلية الفرنسي صرّح بكون الإرهابي “جاء إلى فرنسا بنية القتل” وهو ما أكده التونسي حكيم القروي أيضا في تصريحه لإحدى القنوات الفرنسية.

ورغم ان السلطات القضائية التونسية سارعت بفتح تحقيق في القضية، وهو ما اعتبرته نظيرتها الفرنسية أمر محمودا، إذ اعتبر القضاء الفرنسي ان ” نتائج التحقيقات في تونس ستكون حاسمة في كشف ملابسات القضية” فان ذلك أمر يدعو لمزيد الحذر في التعاطي مع هذه الجريمة الإرهابية وتبعاتها. فلا يخفى على الجميع ان للإرهاب في تونس خلايا كثيرة، لعل إحداها هي التي جندت المدعو ابراهيم العيساوي. كما لا يخفى ان قضية تسفير الشباب التونسي للقتال في بؤر الإرهاب التكفيري أمر معلوم منذ سنوات، ولعل إحداها هي التي سفّرت هذا المُجرم، لكن الأخطر من كل ذلك، هو انخراط جزء من “منظومة الحُكم” في تمجيد الإرهاب وتبريره، مثلما هو شأن النائب راشد الخياري. ومثلما هو شأن صفحات أحزاب ونوّاب انخرطت دون وعي في حملة “الدفاع على رسول الله” دون تبيّن لخلفياتها وأسبابها العميقة، وسقط الجميع في عملية تبرير للعُنف باسم الدفاع على المُقدسات، وانخرطوا في صراع تحوّلوا الى وقد له رغم انه صراع على النفوذ بين قوى هيمنة إقليمية تركيا وفرنسا. ولقد بيّن الرئيس الفرنسي في لقائه مع قناة الجزيرة القطرية ان “الدعوة إلى القتل او العنف أمر مرفوض وهو خط احمر لن يتم السماح له، مثلما لن يتم السماح لأي مسّ بحرية التعبير والتفكير والرسم”.

تأخرت السلطات التونسية في إدانة العملية لعله كان نتيجة الارتباك وقلة الخبرة، ولكن عدم القيام بمبادرات دبلوماسية تكشف تعاطف تونس مع الضحايا ووقوفها إلى جانب فرنسا في محاربة الإرهاب، من قبيل زيارة نيس لحضور قُدّاس الأحد او سفارة فرنسا او حتى إحدى الكنائس في تونس، يجعل الموقف التونسي ضعيفا.

تعيش تونس على الإعانات والقروض، وكان الاتحاد الأوروبي كريما مع تجربتها الديمقراطية، وتُمثّل فرنسا وأوروبا الشريك الاقتصادي الرئيسي بأكثر من 80%  من قيمة المبادلات الاقتصادية، وكل هذا يجعل موقف تونس ضعيفا في التفاوض حول تبعات هذه العملية الإرهابية، وسيُلقي بظلاله على الوضع الاقتصادي المُتعفّن أصلا، فقد تُغلَق “حنفية الاموال”. ولكن الأخطر هو تحوّل تونس في نظر فرنسا وشركائها إلى دولة عاجزة على ضبط إقليمها وحدودها، وتحوّلها الى وكر للمنظمات الإرهابية وقاعدة خلفية تُهدّد امن أوروبا. ساعتها ستُصبح السيادة التونسية محلّ تساؤل، عبّر عنه قائد القوات الايطالية في المتوسط، بكون أوروبا قد تطلب إيفاد قوات للتواجد بالموانئ التونسية، وعبّرت عنه صحيفة ‘لوباريزيان” البارحة والتي كشفت ان فرنسا ستقوم بترحيل آلاف التونسيين. ولعل إعلان وزير الداخلية الفرنسي عن قدومه الى تونس يدخل في هذا السياق.

لحظة خطيرة ستعيشها تونس، التي تحوّلت من تجربة فريدة وديمقراطية استثنائية في عالم عربي متقاتل ومنقسم على نفسه، الى دولة غارقة في أزمة اقتصادية عميقة على شفى إفلاس تام، والى دولة عاجزة على تأمين حدودها لتُصبح خطرا على امن جيرانها شمال المتوسط، والى ديمقراطية جوفاء لا معنى اجتماعي فيها ولا كرامة لأهلها.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP