تونس وثقافة "اللاعنف
بقلم: خالد شوكات
يتحدّث الماهاتما غاندي الذي تخلّد الانسانية هذا العام ذكرى ميلاده ال150، في مذكراته “تجاربي مع الحقيقة”، عن الكتاب الذي غيّر حياته وقلبها رأسا على عقب، وعنوانه “حتّى الرجل الاخير” لفيلسوف الحياة الجماعية الانجليزي “راسكين”، وخلاصته “ان الملكية/حبّ التملك وهم كبير تتخبّط فيه البشرية”، وأنها – أي الملكية- سبب جلّ مشاكل الانسان عبر العصور وفيّ مقدّمتها “العنف”، وانه لا خلاص للبشر الا بتحرّرهم من هذا الوهم، وبدافع هذه القناعة قرر غاندي ان يتنازل عن كل ما يملك، وان يعيش بعد ذلك حرًّا ينشر ثقافة “اللاعنف” والتسامح والمقاومة السلمية، ويلزم نفسه بالعيش مع جماعة يتقاسمون الغذاء والدواء والسلوك اللاعنفي. لقد غيّر المهاتما غاندي بتجاربه حياتي، وتبدّلت تماما نظرتي للاشياء، ودفعني الى البحث عن الجانب اللاعنفي في تراثنا العربي الاسلامي، الذي كان قد اثر بدوره في المهاتما نفسه، الذي جاور المسلمين في الهند وجنوب افريقيا، واطلع على قيمهم وفلسفتهم بالحياة، وتأثر برموزهم، كالرسول محمد (ص) وعلي (ع) وخصوصا ابنه الحسين (ع) الذي قال عنه “انه تعلم منه ان يكون مظلوما فينتصر”.
الحقيقة ان التراث العرفاني، خصوصا الوجه الصوفي منه، كان في الغالب تراثاً “لاعنفيا”، وان رموز التصوف كالحلاج والبسطامي والجنيد والرومي والجيلاني وابن عربي والباجي والشاذلي والتيجاني والرياحي وغيرهم كثر، كانوا “لاعنفيين” دعوة وسلوكاً، وان العرفان وجههم غالباً الى ان “النزعات العنفية” مرض وجب على الانسان مقاومته، في سياق معركته الكبرى مع نفسه.
والعنف الذي دعا اللاعنفيون عبر التاريخ لمقاومته، هو العنف بانواعه، اللفظي والمعنوي والمادي، وهو عنف مترابط يفضي بعضه الى بعض، ومن هنا تبدو المقاومة اللاعنفية مقاومة شاملة او لا تكون، واللاعنفي هو إنسان يمتنع عن ممارسة اي نوع من انواع العنف، وبالتالي فقد سلم الناس من يده ولسانه، طهّر قلبه بالحبّ، ونزّه نفسه عن الحسد والكراهية والبغض، والتمس للناس اعذاراً وتجاوز عن اخطائهم ولم يردّ الفعل ازاء ما يفعلون او يعتدون.
ان الاستثمار في العنف اللفظي والمعنوي، هو من قبيل الاستهانة بخطاب السباب والشتيمة، والتجاوز عن خطاب الدعوة الى الكراهية والحقد والتمييز، وعدم الانتباه لخطورة تقسيم المجتمع الى قطبين متخاصمين لا مجال للتعايش او التواصل او العمل المشترك بينهما، وهو من قبيل جعل الناس اسلاميين وعلمانيين وكفرة ومؤمنين وخونة ووطنيين وهكذا، وهو عمل “عنفي” تراكمي قد يؤسس بسهولة لقاعدة احتراب أهلي وتنازع داخلي، وعلى هذا الاساس وجب الانتباه والسعي الى إيقاف هذا الانزلاق التدريجي نحو العنف المادي.
تحتاج تونس الى تبني برنامج تربوي ومدني واسع يؤسس لثقافة “اللاعنف”، وهو التوجه الذي يتقدم نحوه التاريخ البشري وتسير باتجاهه الانسانية، وهي ثقافة تنسجم مع المعرفة الخضراء البديلة وفكر السلام والتعاون والتسامح والديمقراطية وحقوق الانسان، التي ما فتئت مع تقدم الزمن تشكل مادة التجديد الاساسية في المناهج التعليمية والتربوية في العالم بأسره، وتونس مطالبة بمواكبة عصرها معنويا وماديا.. تونس رقمية وديمقراطية وخضراء و”لاعنفية”.
Comments