الجديد

تونس.. وطن يتّسع للجميع

محمد بشير ساسي

حين تمّ إقرارُ (دستور 2014)، قيل أنذاك أنه مفخرة لتونس بين الدّول وترجمة حقيقية لثورة الياسمين التي تغنّت بها برلمانات العالم والشعوب من مشارق الأرض إلى مغاربها… قيل أيضا أنّ (دستور 2014) هو الضّمانة السياسيّة الوحيدة والجسر القانوني الأمثل لاستكمال باقي المؤسسات الدّستورية والهيئات المستقلة حتى يكتمل بناء “الجمهورية الثانية” على أسس ديمقراطية توافقية تقطع بصورة نهائية مع ماض بعيد ثقيل بأصفاد التغطرس، وكذلك ماض قريب (ما بين 2011 و2013) دار في فلك ما سُمّي حينها “بحُكم الشرعية ” التي انقسم بسببها الشارع التونسي.

انقسام أجّج نيران صراعات إيديولوجية حادة ما أنزل الله بها من سلطان قبل أن تهدأ العاصفة السياسية مؤقّتا بفضل “توافق الشيخان”، الراحل الباجي قايد السبسي رئيس حركة نداء تونس أنذاك وراشد الغنّوشي زعيم حركة النهضة تحت إشراف الرّباعي الراعي للحوار. كانت كلّ الأسئلة المطروحة في تلك الفترة بين أطراف العائلة السياسيّة وحتى السّواد الأعظم من الشعب التونسي تتمحور حول ضمان سيرورة التجربة التونسية دون تعثّرات كبرى أو ارتطام بصخرة التغوّل السياسي الذي أجمع الكلّ تقريبا حول القطع معه إلى أبد الآبدين ضمن مسار وحدة وطنية لم يحد عن ضوابط التّداول السلمي على السّلطة وثوابت السّلم الإجتماعي.

ورغم ما عاشته البلاد من تشنّجات سياسية ومطبّات أمنية وإحتجاجات إجتماعية طالبت في مجملها بتوفير ظروف العيش الكريم ومحاربة الفساد، فقد حافظت تونس برأي المراقبين على وحدتها وتوازنها وجدارها الصلب لدرء كلّ المفاسد التي من شأنها إجهاض مشروعها النّشط والمتحرّك باستمرار وسط التجاذبات والنقاشات والمعارك السياسيّة السّاخنة سواء تحت قبّة البرلمان وفي المنابر الإعلامية والفضاءات العامّة.

لكن بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة يعتقد محلّلون أنه ثمة مؤثرات دفع قوية تعمل على تصدّع المشهد السياسي في تونس التي خرجت منهكة كغيرها من البلدان من معركتها المرعبة ضد جائحة كورونا، وبات السؤال يطرح بريبة وخوف: ما الذي حدث فجأة حتى تفقد البلاد مناعتها السّياسية في فترة زمنية وجيزة بعد الاستحقاقات الانتخابات وتطفو على السطح “مطالب” تنادي بإعادة النظر في النظام السياسي؟! نظام فتح في الواقع باب الجدل المتصاعد بين قراءات تثمّن توزيع الصلاحيات بين أطراف متعددة بما هو ضمانة لعدم عودة الاستبداد وجمع السلطات بيد شخص واحد وبين من يعتبره السبب الرئيسي في التشتت السياسي نتيجة عدم قدرته على إفراز أغلبية واضحة قادرة على تنفيذ برامجها ومن ثم محاسبتها من طرف الناخبين..

وما بين الشقين هناك من لعب على أوتار ما سميّ بتنازع الصلاحيات” في إطار دستور أرسى نظاما معدّلا (جاء على أنقاض النظام الرئاسي القديم) يُمنح فيه مجلس نواب الشعب صلاحيات التشريع والرقابة ويسند لرئاسة الحكومة الصلاحيات التنفيذية في حين تكون مجالات الدفاع والامن القومي والعلاقات الخارجية من مهام الرئيس، الأمر الذي لم يرُق لأطراف معنية “لغاية في نفس يعقوب” كما فسّر ذلك متابعون للشأن التونسي. بيد أنّ المخيف في الأمر كما يرى كثيرون هو دخول الرئاسات الثلاث (قرطاج،القصبة وباردو) في مناكفات وتبادل للرسائل المشفّرة، حتى بلغت الاتهامات المبطنة والمعلنة أشدها لتتسبب في تسميم الأجواء وزعزعة الاستقرار النسبي للطبقة السياسية، في الوقت الذي بدت فيه تونس منتشية بثمرة النجاحات في حربها على فيروس كورونا الذي فتك بأرواح الآلاف في بلدان أخرى.

وأبعد من ذلك ثمة من استغل تلك الانزلاقات في الخطاب السياسي الرسمي لينفخ في الرماد ويُخرج منه لهيباً يراد به حرق الجميع عبر خطاب شعبوي تحريضي يدعو لتنظيم ما سميّ باعتصام (الرحيل 2)، للمطالبة بجملة من الحقوق المدنية الأساسية من أهمها التنحي الفوري لراشد الغنوشي عن رئاسة البرلمان، وتركيز محكمة دستورية، وتنقيح الدّستور لتغيير تنظيم السلط كما يروج البعض. دعوات تخريبية كما وُصفت، قوبلت بالرّفض والاستنكار لكونها أُعتبرت تعدّ صارخ لمؤسسات الدولة التي هي في أمس الحاجة إلى رؤى وبرامج طموحة من أجل معالجة آثار الجائحة على جميع الأصعدة بعيدا عن نوايا الفتن والفوضى.

وحتى الذين اختاروا الوقوف في المنطقة الدّافئة وعلى مسافة واحدة من جميع الأطراف السياسية، اعتبروا تحشيد الناس للمطالبة بتغيير النظام السياسي قانوني ودستوري لكنّه ليس مناسبا لا من ناحية رمزية التّوقيت ولا من ناحية الأفكار التي يروّج لها من يقفون وراء الاعتصام، لأن مؤشرات الراهن كشفت للجميع أنّ تأسيس “الجمهورية الثالثة” ضرب من البِدَع السياسية. كلّ هذه المعطيات والحيثيات جاءت مناقضة لشعارات التحدّي والبناء والإنجاز التي طغت على الحملة الانتخابية رئاسيا وتشريعيا وعلى عناوين التشكيل الحكومي الذي رأى النور بعد ولادة عسيرة، وكأن من يحكمون البلاد اليوم تنكروا لوعود الأمس، حيث تجمعهم المناصب وتفرقهم مصلحة الوطن، حتى أن هناك من يتحدث عن حالة التوافق “المغشوش” في تركيبة حكومة إلياس الفخفاخ؟

وهناك أيضا ممّن لديهم أمل في المراهنة على تقسيم مكوّنات المشهد السياسي في تونس وإرباك العلاقة بين اللاّعبين الأساسيين بإشعال فتيل العداء بينهم، كي تنعدم كلّ فرص العمل المشترك والثقة والتوافق من أجل وطن يتسع للجميع لا بيع فيه ولا شراء.

*- إعلامي تونسي

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP