تونيسار (Tunisair) شركة تشبه بلدها
خالد شوكات*
احتفل هذا العام بعشرين عاما من الطيران مع شركة الخطوط الجوية التونسية (Tunisair)، فقد التزمت مع نفسي منذ عقدين من الزمان أن لا أسافر الى مكان للعمل أو السياحة إلا عبر الناقلة الوطنية، الا اذا لم يكن للشركة خط للبلد الذي اقصده، وما ازال ملتزما بهذا العهد حتى مع تردّي الخدمات وتراجع الجودة، وهذا واجب وطني كما اراه، تماما كما لا احبّ شراء اي منتج مستورد اذا كان له بديل تونسي حتى وان كانت نوعيته أقل.
والحق اقول انه ليس هناك ملخص لأزمة بلادنا المتفاقمة أفضل ولا ابلغ من الوضعية التي تردّت إليها “الغزالة”، فبعد الريادة في المنطقة، والسمعة الطيّبة في الأداء والانضباط والقدرة التنافسية والطموح، اصبحت خطوطتنا الوطنية موضوعا ل”الخجل الوطني” بدل “الفخر الوطني”،
كما اصبح إصلاحها وإنقاذها من الغريق والافلاس الذي يتهددها، أشبه ما يكون باصلاح بلدنا وإنقاذها من الوحل الذي تتخبط فيه، وَكما هو حال البلاد التي توقف فيها الانتاج في مواطن ثروتها من نفط وفوسفات وغيرها، وانهارت فيها قيمة العمل، وهيمنت على مواردها البشرية العمالة الزائدة، اضحت “تونيسار” تطير فقط بسبع وثمان طائرات، وتشتغل بثلث مواردها العمالية والوظيفية، اي انها كما البلاد تماما لا تعتمد الى على جزء قليل من طاقتها الفعلية، ويكتفي مائتا الف من عمالها وموظفيها بقبض الشهرية.
الخطوط التونسية التي سبقت في تأسيسها جميع الشركات الجوية المغاربية، وربما العربية، وتفوقت في خبرة كوادرها ورفعة طياريها على شركات عالمية عريقة، تماما كتونس لا تنقصها الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية، لتحلّق عاليا وترفع الراية الوطنية خفّاقة في العالم، فمن الناحية النظرية لا شيء يحول دون خروج “الغزالة” من ازمتها واستعادة مكانتها، ولكنها لا تفعل ذلك، بل لم تمكّن من القيادة الحقيقية ذات الرؤية الاستراتيجية الطموحة والحوكمة وحسن التصرف والإدارة، حتى عادت مستعصية على الاصلاح، تراوح مكانها، وهي في هذا الحال تماما كحال تونس البلد الذي يوجد في قلب العالم ولديه الموارد البشرية الذكية ومع ذلك يظهر كالغريق الذي يصارع من اجل مجرد البقاء على قيد الحياة.
تونيسار اهم شركات القطاع العام، وان لم تكن اكبرها، لكنها على اي حال واجهة البلاد وصورتها ومؤشر اساسي يفهم من خلاله وضعها، وهي كما البلاد ايضا شراكة في راس مالها بين القطاعين العام والخاص، وهي لهذا محل تجاذب ايضا بين طرفين، احدهما لا يرى حلّا في غير التفريط فيها كلّياً من خلال خوصصتها، وثانيهما تحكمه رؤية اجتماعية يسارية نقابية متشددة تمتنع كلّياً عن مجرد مناقشة موضوع إصلاحها احيانا، وهو ما ينطبق على النقاش المتصل بالاصلاحات الكبرى المفترض إجراؤها في هياكل الدولة الاقتصادية ومرافقها الاجتماعية ومنوالها التنموي، وقد استسلمت تونيسار -كما تونس- لسلسلة من المعالجات الترقيعية طيلة السنوات العشر الماضية، خففت من بعض الالم ولكنها فاقمت المرض حتى بدا اليوم عصيا على التطبيب والشفاء.
موقع تونس الاستثنائي في قلب العالم والمتوسط، يمنح تونيسار قدرة استثنائية على المنافسة في عالم السماوات المفتوحة، فتونس يمكن ان تكون بلد “ترانزيت” استثنائي، إذ هي بين اوربا وافريقيا، وبين اسيا وأمريكا، ولن تتمكن من ذلك الا بإعادة بناء تونيسار وشركة الملاحة البحرية التونسية على هذا التوجه الطموح، فالغزالة احد عناوين تثمين تونس لموقعها، وهي قادرة اذا ما وضعت لها خطة اصلاحية طموحة لكي تنهض من كبوتها، ويكون ذلك احد عوامل نهوض البلاد عامة من الكبوة التي هي فيها.
وما من ضرورة للقياس على الخطوط القطرية او الاماراتية المستفيدة من أسعار المحروقات الرخيصة. هنالك غير بعيد عنّا الخطوط الاثيوبية والخطوط التركية التي يمكن الاستئناس بها في تجارب اعادة البناء والإشعاع واستعادة القدرة التنافسية والمساهمة في النهضة الوطنية. تونيسار كما البلاد، تحتاج الى إيجاد حل لمشكل القيادة، وتحتاج الى مطار دولي جديد يساعدها على اطلاق سراح طموحها. مطار يمنح الغزالة وتونس الصورة العصرية التي تليق بها. مطار يليق بفخر التونسيين ببلادهم وبخطوطهم الوطنية. يجب ان نخرج من دائرة الترقيع وسياسة إطفاء الحرائق الى التخطيط والطموح والمنافسة، وما هذا الامر على كوادرنا وكفاءاتنا بعزيز لو توفرت شروط التقدم الثلاثة: قيادة، رؤية، حوكمة.
Comments