جدل التطبيع .. يعمق الاستقطاب السياسي
المهدي عبد الجواد
في سياقات وطنية مأزومة، كان القرار الاماراتي بــ “التطبيع” مع اسرائيل مفاجئا. ولكنه تحول في تونس الى مجال لتكريس الاستقطاب السياسي والفرز بين القوى السياسية في البلاد. لقد كان من أكبر نتائج “الربيع العربي” انغماس الشعوب العربية ونُخبها ودولها في شؤونها الداخلية، إذ ان المسارات الانتقالية فيها تشهد تعثّرا بدرجات مُتفاوته، مع ازمات اقتصادية واجتماعية خانقة زادتها حدّة مضاعفات جائحة الكوفيد 19. ولئن بادرت دول عديدة بمباركة هذه الخطوة وأخرى الى ادانتها، فأن الموقف التونسي الرسمي جاء متأخرا قليلا، لعلّه انتظر هدوءا ضروريا ليكون موقفا متوازنا يُراعي المصلحة التونسية دون سواها.
المُلاحظ في المواقف العربية أن الصوت الاعلى كان للدول المُرحّبة بالاتفاقية، إذ ان مصر والبحرين وسلطنة عمان ابدت مباركتها له، فيما التزمت بقية الدول الصمت، ومما ذُكر يُمكننا ان حلفاء الامارات المتهمة بوقوفها “ضد الربيع العربي” وثوراته ساندتها. اما الرفض فقد جاء من السلطة الفلسطينية وهو امر منتظر ومن حزب الله اللبناني وقطر، ساندهما في ذلك دولتان اسلاميتان هما ايران وتُركيا. ويُمكننا القول ان حلف “الربيع العربي” المتهم بكونه حلفا إخوانيا في صراع مع الامارات، وقف ضد هذا الاتفاق على ما في الموقف التركي من “نفاق سياسي”.
إذ ان تركيا التي ترتبط بحلف استرالتيجي مع اسرائيل و لها شراكات واسعة اقتصادية وعسكرية ويزور مسؤولوها بما فيهم رجب طيب اردوغان اسرائيل، تحتج وتُطالب بمعاقبة الامارات. هذا الانقسام الاسلامي والعربي انعكس على تونس، بنفس الشاكلة تقريبا.
الرافضون… جُمل ثورية/انتهازية
بادرت الاحزاب القومية واليسارية وبعض المنظمات الوطنية والهياكل المهنية، بادانة الاتفاق ونعتته بــ “الخيانة” للثوابت الوطنية والقومية، و تخليا على “الحق الفلسطيني” بما ان القضية الفلسطينة هي “البوصلة” وهي القضية المركزية للشعوب العربية والاسلامية، بل للضمير الإنساني الحي الذي يرفض كل إشكال الاستيطان والصهيونية. لذلك كان موقف حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد وحركة الشعب وحزب العمال منسجما مع “المقولات النظرية” لهذه الفصائل، ومثلها نقابة الصحافيين واتحاد الشغل وبعض جامعاته.
الرفض جاء ايضا من “مكتب رئاسة مجلس نواب الشعب” المؤسسة الدستورية الرئيسية في النظام السياسي التونسي. ورغم الجدل الذي قام بخصوص أهلية رئيس المجلس الأستاذ راشد الغنوشي، إصدار مثل هذه البيانات او إبداء رأيه في القضايا ذات الصبغة الخارجية، فإنه تجاوز هذا الجدل واصدر بيانا شديد اللهجة، يُدين الاتفاق الاماراتي، وهو موقف ينسجم مع تموقع “رئيس المجلس” ورئيس حركة النهضة الإسلامية مع حلفائه الاخوانيين “تركيا وقطر”.
موقف النهضة الاسلامية بدا لبعض المتابعين غير منسجم مع “مسارات” موقف الحركة من القضية الفلسطينية خاصة بعد الثورة التونسية. إذ ان حركة النهضة رفضت –وماتزال- تجريم التطبيع، كما استقبل قادتها بعض صقور اليمين الأمريكي المعروفين بمواقفهم القوية المساندة لإسرائيل مثل السناتور الأمريكي جون ماكين، ناهيك على مشاركة رئيس الحركة نفسه في مؤتمر الايباك، اللوبي الأقوى والأشد تأثيرا ومناصرة لإسرائيل في أمريكا. هذا الموقف الرافض لا نجد له أيضا وجودا من التطبيع التركي الإسرائيلي العلني وخاصة من التطبيع القطري الإسرائيلي شبه العلني، إذ لا تُخفي الإمارة الصغيرة علاقاتها المتنوعة مع إسرائيل وقادتها، بل ان بعض رجال إسرائيل المهمين زاروا الدوحة في أكثر من مناسبة.
فبقطع النظر على مدى الوجاهة في إصدار بيان باسم “مكتب المجلس” وما قد يُثيره من نقاش جديد/قديم حول وجود هذه المؤسسة أصلا، مما سيزيد في توتير الأجواء داخل المجلس من جديد، فإنه يُعتبرُ تجاوزا لصلاحيات رئيس الجمهورية الذي يمنحه الدستور حصريا تحديد الموقف الوطني للدولة التونسية من القضايا الخارجية، كما ان هذا الموقف يتماهى مع الموقف الحزبي للنهضة مع حلفائها الإقليميين، الأمر الذي يُعيد طرح قضية هذا التداخل بين رئاسة المجلس ورئاسة حركة النهضة وتأثيره على “حيادية” المؤسسة.
موقف الرئيس .. تردّد وحياد
بدا موقف عبير موسي رئيسة الدستوري الحرّ الرافض لبيان “راشد الغنوشي” مفهوما، نظرا للاستقطاب الحاد الذي تشتغل عليه، فهي تنقاد ببوصلة “ضديدة للإخوان” في كل شيء، وزادت عليه بكون “النفاق الإماراتي الإسرائيلي” مسألة داخلية لا تعني التونسيين، وان موقف تونس الدائم هو “رفض التدخل في شؤون الدول الأخرى”.
رئيس الجمهورية تأخر في اصدار موقفه قليلا. وكان ذلك مصدر “استغراب” خاصة وانه بنى حملته التفسيرية على جعل “قضايا الامة” في قلب مشروعه وفلسطين في صدارته. ويتذكر الجميع انه كرّر في حملته كون التطبيع خيانة، وهو امر صدح به في خطاب القسم أمام شاشات العالم، فالتطبيع جريمة ترتقي عنده الى “الخيانة العظمى”.
ولكن بين الجملة الثورية النقية في الخطابات وبين اكراهات السطة وواقعها ثمة فرق جوهري. تجلى في تعديل الرئيس لموقفه. إذ بدا الاتفاق الاماراتي الاسرائيلي عنده “موقفا داخليا لدولة اخرى لا نتدخل فيه” وصار “التطبيع” قرار سياديا حرّا لدولة اخرى، مثلما ان الموقف التونسي سيادي وحرّ. وكما ان تونس متمسكة بثوابتها في نُصرة القضية الفلطسنية، فإنها متمسكة بثوابتها بعدم التدخل في شؤون الدول الاخرى الداخلية.
موقف قيس سعيد بدا عند الكثيرين موقفا متوازنا، يُراعي المصالح العُليا لتونس التي تعيش وضعا صعبا يتطلب منها التواضع والالتزام بمواقف لينة تفتح امامها ابواب التعاون الدولي، وان لا تحشر أنفها في مسائل قد تنعكس سلبا على صورتها وموقعها، ولكنه موقف بدا لاخرين تخلّيا على شعارات وجمل الرئيس الثورية، شعارات سحرت “الباب شباب” حالم ومندفع لنُصرة “الحقّ”.
وبين الموقفين يبدو ان قيس سعيد شرع تدريجيا في لبس “عباءة الرئئيس” متخليا تدرجيا على عباءة الحالم.
وفي كل الحالات تظل المواقف التونسية المتوزعة بين مُدين ومُحايد في قلب الاستقطابات الاقليمية. ولكنها تظل ايضا دليلا على اهمية القضية الفلسطينية في الوجدان النخبوي والشعبي التونسي.
Comments