جدل الفرنكفونية: تونس وسيناريوهات الانقسام بين "الحداثة والظلام"
أمين بن مسعود *
لئن جاز فعل اصطفاء زاوية معرفية لمقاربة خطاب الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون في العاصمة الإرمينية خلال القمة الفرانكفونية, فهي زاوية “قابلية التوسّع تحت عناوين الثقافة واللغة”, وهي منظومة رمزية لا تتحرك إلا بمقتضى التسليم بوجود “قابلية رمزية للاستعمار والاحتلال” لدى الكثير من أهالي المستعمرات القديمة.
فأن يُقحم الرئيس الفرنسي نفسه في جدل مجتمعي عميق وحوار حضاريّ يمسّ القراءات الدينية وميكانزمات الاجتهاد الفقهيّ وأطر التفكير في النصّ والتناصّ, وأن يقسّم بشكل بنيوي المجتمع التونسي بين تنويري وظلاميّ, ومناصر للأنوار ومدافع عن الدياجير والعتمة, لهو من باب الابتسار والاختزال لمشاريع فكرية ومجتمعية كبرى تنال من عمر الشعوب القرون والعقود الطويلة.
وعندما تناط الملفات الإقليمية والدولية الكبرى بالسياسيين المغمورين, وعندما تُفتح الأبواب على مصراعيها لرئيس دولة لم يتملك بعد “رصانة المسؤولية السياسية” لدولة مؤثرة مثل فرنسا, فإنّ النتائج تصبح تعميق الهوّة المحليّة و”مأسسة الانقسام”, والأخطر من ذلك تحويله من خلاف بينيّ داخليّ إلى تجاذب إقليمي يستدرّ بمنطقه الداخلي ومنطوقه التناقضي تدخلات أجنبية لفائدة الطرف الآخر.
ولئن وضع الرئيس ماكرون وزنه السياسي وثقل المنظمة الفرنكفونية وراء الرئيس الباجي القايد السبسي في مقارباته التحديثية وبالضدّ المتناقض مع الأطراف المعارضة, فهو بشكل حتميّ يفتح الباب أمام تصورات إقليمية أخرى تنافح عن الرؤية المقابلة وتزكيها تحت عناوين “الأمن الهوياتي” و”النسيج المجتمعيّ”.
صحيح انّ مشروع الرئيس السبسي حول الحقوق الفردية والمساواة, يمثّل قراءة جدّ متقدمة للنص الديني وللمدونة الفقهية للمواريث, وصحيح أيضا أنها تجسّد نقلة في مستوى الأحكام وفي مستوى منهاج قراءة الأحكام, ولكن الصحيح أيضا ان نعت الطرف المخالف له بالظلاميين أو وضع كل الأطراف السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية والمدنية المتحفظة حيال المشروع جزئيا أو كليا في سلة واحدة, لهو أمر مجانب للمنطق وللرصانة والمسؤولية التي على الفاعل السياسي أن يتحلى بها.
فالكثير من الأصوات المعارضة للمشروع عارضت أسلوب عرضه وصياغته, إذ أنه كان نتاج اجتماع ثلة من المثقفين القريبين من بعضهم البعض وجهة وتوجّها, ولم يكن نتاج نقاش مجتمعي عميق بين الأطراف المختلفة وحتّى المتناقضة, والكثير من المختلفين مع المشروع كانت ضدّ مسلكية الإصلاح في تونس – والتي بالإمكان أن نعود بها إلى عهد خير الدين باشا- حيث أنّ التطوير منوط بمقاربة عمودية تبدأ من السلطة إلى الشعب الأمر الذي يفقدها أبعاد التشاركية والتشريك ويبصمها بطابع “الإلزام” والتقييد.
والعديد من الأصوات أيضا تحفظت حول غياب الأصوات المؤثرة في مسار الإصلاح على غرار جامعة الزيتونة, او احترزت بسبب الشروع في البناء “القانوني المجتمعي” للجمهورية الثانية قبل إرساء المحكمة الدستورية, كما أنّ الكثيرين أيضا عارضوا منهاج الرئيس السبسي في معالجة المسألة حيث آلها إلى “الدولة المدنية” والتي لا علاقة لها بالدين الإسلامي لا من قريب أو بعيد, في استدرار لمقولة الفيلسوف المصري عبد الوهاب المسيري ب”العلمانية الشاملة” على الرغم من أن فصولا عديدة في الدستور تتحدث عن رعاية الدولة للدين.
إذن القضية غير مرتبطة فقط بالمضامين, حتّى نضع الاجتماع التونسي حيال قسطاطين متضادين, والمسألة غير متعلقة أيضا ب”تحديث قسريّ” وفق مطلبية سياسية عموديّة, الموضوع في تقديرنا مرتبط بعدم تسييس القضايا الثقافية والمجتمعية العميقة وعدم تحويلها إلى ورقة ابتزاز, إضافة إلى ضرورة تيقظ المثقف المحليّ إلى واجباته الفكرية والمعرفية وعدم الاستقالة من المجال العموميّ حتّى لا يصادر دوره من المتربصين بالثقافة والمثقفين.
يُحسب للرئيس السبسي رفضه التعليق على الوضع التونسي في الإعلام الأجنبيّ, ويُحسب له أيضا إيمانه العميق بالتوافق كوصفة لإدارة البلاد, ولكن ما لا يُحسب له سكوته ورضاؤه على توصيف من قبل رئيس أجنبي لجزء من المجتمع التونسي (سواء أكان الجزء أقلياتي أو أغلبي) بالظلاميّ.
فالرئيس هو إرادة الشعب ورغبته الديمقراطية, وقد اصطف وراء السبسي في انتخابات 2014, الكثير من التيارات الهوياتية (جزء من العائلة العروبية في شقها السياسي) والعديد من الأصوات الزيتونية والطرق الصوفية (في الشق المعرفي والعرفاني), وقد عبرت عن تحفظات حيال مشروع السبسي.
ومن المنطقي والمفروض لكل رئيس يسوس البلاد والعباد, ان يرفض أي تجاوز في حقّ السيادة أو تشهير ضدّ أبناء الوطن أكانوا أفرادا أو أحزابا أو منظمات.
تونس في أمس الحاجة لأصوات التوفيق والتوافق في الداخل والخارج, ففاتورة التقاتل والمكاسرة أكثر من قدرة المجتمع على التحمّل, والدولة التي اجترح ذكاؤها الجمعي أيقونة “الرباعي الراعي للحوار” زمن التباين والاختلاف المقيت لن يعسر دون تكريس حوار مجتمعي عميق تكون مخرجاته التطوير دون أعطاب اجتماعية والتحديث ضمن معالم الشخصية القاعدية والتراكم الحضاريّ.
*اعلامي وباحث جامعي
Comments