حتى لا تبقى على الهامش .. الأحزاب السياسية مطالبة بالقيام بمراجعات عميقة لممارستها وسلوكها السياسي
التونسيون- (وات ـ أحلام جبري)-
يخوض التونسيون، ناخبون ومترشحون، انتخابات تشريعية مختلفة و”غريبة”… انتخابات دون أحزاب أو تحالفات أو جبهات، مما يدفع إلى التساؤل عن موقع هذه “التشكيلات السياسية” مستقبلا، وإن كان من الممكن الحديث عن ديمقراطية في مفهومها العام دون أحزاب، الهدف من إرسائها والغاية من ترسيخ دعائمها الوصول إلى السلطة وإدارة الشأن العام.
ومن المؤكد أن غياب الأحزاب السياسية، سواء بإرادتها بعد مقاطعتها للانتخابات، أو بتغييبها بسبب قرارات رئيس الجمهورية وبرنامجه وقوانينه ومراسيمه، يؤدي إلى نتيجة واحدة وهي التأثير على موقع الأحزاب كلبنة أساسية لإدارة الدولة وتحديد توجهاتها العامة من جهة، وعلى علاقتها بالمواطنين وتواصلها مع أفراد الشعب وقدرتها على التأثير والاستقطاب.
وإن يرى البعض أن ما وصلت إليه الأحزاب اليوم هو نتيجة لبرنامج رئيس الجمهورية وتوجهه نحو “عزلها وتهميشها “، إلا أن دخول هذه الهياكل معترك الحياة السياسية الفعلية ووضعها على محك السلطة وخياراتها وبرامجها وسياساتها خلال العقد الماضي “هي الأسباب الرئيسية في عدم قدرتها على تجاوز المرحلة الراهنة وفشلها في إيجاد شعارات تحرك الآلاف وتجمعهم على هدف واحد”، وفق ما يراه المتابعون للشأن السياسي.
جنت على نفسها …الأحزاب
قال المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي ، في تصريح ل(وات)، “على الأحزاب السياسية أن تدرك وتعترف بأنها هي من مهدت لهذا الوضع وتسببت في خلقه من خلال ارتكاب العديد من الأخطاء التي لا يريد الكثير منهم الاعتراف بها إلى حد الآن، ولا أن يقوموا بمراجعات حقيقية”، معتبرا أن تواصل التنافر والصراع في ما بين الأحزاب إلى اليوم يدل على عدم نضجها.
واعتبر أن الأحزاب السياسية تعاني أزمة مصداقية وإنكار لعدم قدرتها على التطور ضمن السياق التاريخي والسياسي الجديد والمتجدد ، مشددا على ضرورة أن تتفق الأحزاب على مكانتها ووضعها في أي سياق وفي أي مرحلة، لأن ما يحدث الآن هو كسر لكل ما تم تأسيسه من قبل كركائز لاحتمال قيام نظام ديمقراطي”.
وأضاف أن هذه التشكيلات السياسية “يجب أن تقر بأنها ضعيفة وهشة وقابلة للتحول في الاتجاه المعاكس، وكأنها غير مدركة لدورها الأساسي والاستراتيجي في عملية البناء الديمقراطي”، حسب تعبيره.
من جهته أوضح أستاذ التاريخ المعاصر والمحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي في تصريح لـ(وات) أن الأحزاب السياسية ليس لها تجربة فعلية ولا ثقافة سياسية حقيقية سواء قبل الاستقلال أو بعده أو حتى بعد الثورة،باستثناء عدد ضئيل من الأحزاب ذات التوجه الايديولوجي مثل حركة النهضة وحزب العمال، ولذلك فإن هذه الأحزاب مازالت ترتكب الأخطاء ذاتها رغم دخولها معترك الحياة السياسية وتحملها مسؤولية إدارة الشأن العام منذ سنة 2011 .
وأضاف أنه نتيجة لتجربتها المحدودة في العمل السياسي والحزبي والتعاطي مع الناس، قدمت هذه الأحزاب في الانتخابات برامج ووعودا “مضخمة وغير واقعية وغير قابلة للتحقيق” مما جعلها تفقد مصداقيتها لدى المواطنين، إلى جانب سلوكها السياسي المجسد بالخصوص في التحالفات والخطاب السياسي الذي يكون في أغلب الأحيان “متطرفا في المطالب” وغياب الثقافة الديمقراطية الحقيقية داخل هياكلها وهي كلها عوامل أدت إلى نفور الناس منها.
كما رأى أن الأحزاب قد أعطت صورة مشوهة للحزب خاصة من خلال الصورة التي نقلها البرلمان خلال السنوات العشر الماضية، ولذلك “أصبح لأغلبية المواطنين ،بعد 25 جويلية، نوع من الكره على المستوى الأخلاقي” حسب تقديره، مشيرا إلى أن الانشقاقات والانقسامات داخل الأحزاب وعدم قدرتها على العمل في برنامج واحد، زادت في نفور المواطنين منها.
لابد من مراجعات عميقة للأحزاب حتى لا تبقى على الهامش
ويعتبر الجورشي أن الأحزاب السياسية مطالبة بالقيام بنقد ذاتي وبأن تكون واعية بأن الوضع قد اختلف تماما عما كان عليه قبل 25 جويلية وعليها أن تبني استراتيجية وثقافة سياسية جديدة، وأن تقوم بمراجعات جذرية على مستوى الأهداف والبرامج ، مشيرا في هذا الصدد، إلى أن جزء كبيرا من الأحزاب في تونس لا يملك برامج بل يملك شعارات وأنها تعيش أزمة في تعاملها مع الجمهور ولا تحسن التواصل معه.
ويعتقد المتحدث أن الرئيس قيس سعيد قد همش الأحزاب لكن رغم ذلك مازال دورها ووجودها قائما “لأن الجميع على وعي تام أنه لا ديمقراطية دون أحزاب”، شرط أن تقوم بمراجعات جوهرية وإلا “فإنها ستبقى على الهامش وربما تعجل بأن تدفن نفسها بنفسها”، ملاحظا أن الأحزاب مطالبة بأن تعيد بناء تاريخها من جديد وتضع تجاربها السابقة على السطح وتسلط عليها أضواء النقد العميق لعلها تبني قيادات وزعامات جديدة و تستطيع أن تحول ضعفها قوة”.
ولفت عبد اللطيف الحناشي بدوره إلى أن هذه الأحزاب غير قادرة على الفعل وهي تقوم فقط برد الفعل وليست لها القدرة على صياغة برامج بديلة أو إخراج المواطنين للشارع بالآلاف وعلى خلق شعارات تستقطب الجماهير بشكل كبير.
وأضاف أن تجربة الانتقال الديمقراطي هي مراكمة للدروس ومن المؤكد أن يستفيد المجتمع السياسي من التجربة ويتطور وينتقل إلى ثقافة وسلوك جديد لكن شرط القيام بالنقد الذاتي للسلوك والخطاب الذي يجب أن يكون واقعيا ومرنا، حسب تقديره.
كما أشار إلى أن الأخطر على الأحزاب هو سيادة النرجسية لدى قياداتها وعدم دمقرطة هياكلها وعملها، “ذلك أن كل القيادات السياسية في تونس، تقريبا، ترى أنها لا تعوض ولا تترك مكانها للشباب ولا تعطيه الفرصة تستعمله وظيفيا في الانتخابات أو في المعارك”.
لا ديمقراطية دون أحزاب
وعن مستقبل الأحزاب السياسية بعد الانتخابات التشريعية، لفت الحناشي إلى أنه “لا توجد ديمقراطية دون أحزاب ودون مؤسسات حزبية ” ، لذلك فإن “هذه الانتخابات ورغم فشل الأحزاب ستفقد مصداقيتها” ولكنها في المقابل لن تعطي قيمة للأحزاب ولن تقدم لها دفعا جديدا لتجد لها مكانا في المستقبل لأن المشكل الحقيقي يكمن في الأحزاب في داخلها.
وقال “بعد الانتخابات لا يمكن أن تكون حياة ديمقراطية دون أحزاب، ولا يمكن للأحزاب أن تندثر بشكل كلي لكن عددها سيكون أقل بكثير، ستبقى خمسة أو عشرة أحزاب تكون لها القدرة على الاستمرار لكنها ستستمر ضعيفة وغير قادرة على كسب الناس “، مذكرا بأن كل الأخطاء التي راكمتها الأحزاب تسببت في ظاهرة العزوف للانخراط في أنشطتها والانتماء لها، حسب رأيه.
أما عن مسألة تكوين الجبهات والتحالفات وإن كان من الممكن اعتبارها وسيلة لاستعادة موقع الأحزاب في المشهد السياسي، فقد أفاد صلاح الدين الجورشي بأن الواقع يفرض على الأحزاب أن تلتقي في إطار جبهات حسب تقارب المفاهيم والمصالح التي تجمعهم ولكن شرط أن لا تراكم هذه التحالفات الأخطاء التي ارتكبتها في السابق وأن لا تعود للتناحر والحسابات الضيقة.
وأعرب عن الأمل في أن تتجاوز الأحزاب خصوماتها القديمة لكي تبني جبهة عريضة تنجح في تغيير موازين القوى وفي العودة لبناء التوازن السياسي في البلاد.
وفي انتظار التشكيلة النيابية التي ستفرزها الانتخابات التشريعية، من أفراد شتات لا رابط فكري ولا ايديولوجي بينها، يبقى مصير الأحزاب السياسية غير معلوم، وإن كانت ستكتفي بالتنديد والوعيد، لا سيما أن ما تمر به اليوم مختلف عن الفترات السابقة، مختلف عن النشاط في السرية أو في أحزاب “كرتونية” تؤثث المشهد السياسي وتزينه.
Comments