حتّى لا تكون الديمقراطية قناعة نخبوية فقط؟
خالد شوكات
علينا أن نعمل ما بوسعنا على تجنّب العودة ببلادنا إلى اجواء الشحن الايديولوجي و”الانقسام الهووي”، كتلك التي عشناها خلال الفترة ما بين 2011 و2014، وان نفوّت الفرصة على عديد الأطراف التي لا يمكنها ان تعيش الا في مناخات الأزمة والتجييش والتعبئة، وهناك من بين هذه الأطراف من بدأ يتحدث عن “ترويكا 2″، والدعوة بالتالي الى “اعتصام باردو 2″، ولا يعدم هؤلاء وجود هنات وبعض أوجه الشبه وعناصر الاستمرارية لصناعة “طاولة وأربعة كراسي” لهذه القضية المفتعلة، كما نقول في المثل الدارج، وهو ما يستدعي الانتباه وعدم الاستهانة بالسيرة الانفة من قبل مراكز الحكم والقرار، والتسلح بنظرة مبدئية وواقعية في آن، حتى نقي بلادنا وأنفسنا ومسارنا في الانتقال الديمقراطي شرور الانتكاس والرِّدة، ذلك ان المكابرة والعناد وصم الاذان على النصحية سيقود حتما الى سوء العاقبة والعياذ بالله.
وأول ما علينا فعله ونحن على أبواب الاحتفال بالذكرى العاشرة للثورة، هو التسلّح بالشجاعة وإجراء تقييم موضوعي لمسار الانتقال الديمقراطي على قاعدة أهداف الثورة كما سطرها الثوار لا النخب الملتحقة بالمسيرة الثورية، وحتى لا تكون الديمقراطية مجرد قناعة نخبوية لشريحة اجتماعية تنتمي غالبا للطبقة فوق الوسطى التي تعد الحرية لديها ام المطالب وغاية الغايات، وهو امر لا يستساغ لدى غالبية الشعب الذي يقدّر أهمية الحرية بلا شك ولكنه لا يجعلها في مقام ارفع من الخبز مثلا.
التقييم الموضوعي ايضا، سيقودنا حتما الى الوقوف عند نقاط ضعف النظام السياسي الذي اخترناه ودسترناه، ومن ذلك مثلا تنظيمنا الناجح بل المبهر لانتخابات نزيهة وشفافة ولكننا ويا للعجب سرعان ما نفرغها من محتواها وفضائلها بترك نتائجها جانباً واختيار حّكام لا صلة لهم بالانتخابات ولا يستمدون وجودهم من تفويض شعبي يجعلهم حكّاماً اقوياء لديهم برنامج جرت تزكيته من قبل المواطنين وسيعملون على تنفيذه كما تقضي بذلك مقاصد الديمقراطية وأعرافها.
المسألة الثانية التي تقضي المصارحة والمعالجة، هي ترقية الديمقراطية من وسيلة الى غاية في حد ذاتها، فقد تصور البعض ان تحقيق الديمقراطية في حد ذاته باعتبارها مجموعة شكليات، هو ما كان شعبنا يصبو اليه ويتمناه، وهو امر مجانب للحقيقة، فالغاية هي التنمية ولكي تكون التنمية مستدامة كان لا بد من التوافق على وسيلة من جنس الغاية وكان الراي ولا يزال ان الديمقراطية هي افضل الأنظمة السياسية او أقلها سوءا على الاقل،
ولكن ديمقراطية لا تجلب التنمية لمواطنيها ولا تخلق دولة رفاه اجتماعي لهم، لن تكون مقنعة الا للنخب المستفيدة منها، ومن هذا المنطلق نفهم النقمة الشعبية المتصاعدة على النخبة السياسية التي تراها باعتبارها نخبة انانية حققت ذاتها باعتلاء المناصب ونسيت هموم مواطنيها المعيشية والتنموية.
المسألة الثالثة في هذا السياق هي عجز النظام السياسي القائم على تشتيت السلطة خوفا من عودة الاستبداد، على إفراز القيادة الصالحة الحاملة لمشروع وطني في التقدم والعاجزة عن التصرف بشكل مرضٍ لغالبية المواطنين، ولا شك في انه ليس هناك بلد تقدم في التاريخ دون قيادة صالحة طموحة وذات رؤية وبرنامج عمل.
ان هذا الحال الذي نحن عليه لا يقوم الا بإعادة انتاج الفشل، فقد وقعنا في ما يشبه الدورة الجهنمية التي تبدأ بانتخابات ثم تنتقل الى تشكيل حكومة بعيدة عن نتائج الانتخابات بمنطق المحاصصة الذي غالبا ما يضع السلطة في ايدي قادة جاءت بهم الصدفة واخيرا تتكاثر الأخطاء التي يتصيدها الخصوم والاعداء وتكبر كرة الثلج وننغمس في صراعات غير محترمة بعيدة تماما عن الاولويات التي يجب العمل على ربحها، وهكذا اصبح إسقاط الحكومات أمرا سهلا ورائجا، وهو اسهل الامور لو تعلمون.
ان الفقراء ازدادوا فقرا وبعض الأغنياء ضاعفوا ثرواتهم، والفساد اضحى مؤسسة فاعلة وقوية لها احزاب ونواب بعد ان تميّعت اللحظة الثورية ولم يضرب الحديد وهو ساخن، وهذه الحكومات الضعيفة المتناسلة القائمة على المحاصصة لم تفلح في المساس بهذه المؤسسة حتى وان كان من بين أعضائها مخلصون بنوا كل مجدهم السياسي على شعار مكافحة الفساد وتعقب المفسدين، وهو امر سرعان ما سيكتشفه الرأي العام مما سيعمق الياس والقنوط من الاصلاح، فمكافحة الفساد تقتضي قيادة سياسية موحدة وقوية لا تتنازعها تناقضات ايديولوجية ومصلحية وحزبية عادة ما يستغلها المفسدون لتعطيل اي مشاريع تستهدف رؤوسهم ومصالحهم ومراكز نفوذهم.
خلاصة القول، علينا كديمقراطيين ان نسمح للديمقراطية بتنظيف نفسها بنفسها كما يفعلُ الصابون، وان نقوم بمراجعات شجاعة وجريئة لتصحيح النظام السياسي والانتخابي ومعالجة نقاط الضعف من خلال الاليات الدستورية المتاحة، حتى لا نضع الديمقراطية في حرج اكبر، وندفع بالأوضاع الى حدود تتجاوزنا، خصوصا وان الديمقراطية ليست كما يعتقد البعض حكرا على نظام سياسي واحد، فقد تعايشت الديمقراطية مع انواع كثيرة من الأنظمة السياسية والانتخابية، ولا ضير في ان نبحث عن الصيغة التي تجعل ديمقراطيتنا مقنعة في خدمة التنمية وحمالةً لمشروع حضاري وطني في التقدم.. هكذا تكون ديمقراطية شعبية لا ديمقراطية نخبوية.
Comments