حديث الجورنالجي مع منذر بالضيافي: حول الصحفي المؤثر لا التابع
يحرص دائما الكاتب والصحفي، الراحل محمد حسنين هيكل، على تقديم نفسه، بكونه “جورنالجي”، فالرجل تربطه بصاحبة الجلالة علاقة “حب” و “عشق”، فهو لا يتصور نفسه، خارج دائرة الحقل الصحفي.
يبرز ذلك، حتى في أدق الجزئيات، من ذلك مثلا أنه والى أن وافته المنية وانتقل الى جوار خالقه، حرص دائما على كتابة مقالاته على ورق طباعة الجريدة، أو ما يعرف عندنا الصحفيين – الذين عاشروا زمن ما قبل الكمبيوتر في قاعات التحرير – ب “البفتاك”، فهذا الورق الأصفر، يولد الأفكار، ويشد شدا لوظيفة ودور الصحفي.
الأستاذ الحبيب بولعراس، رحمه الله، تقلب في العديد من المسؤوليات، من الوزارة الى رئاسة البرلمان، لكن مع ذلك يحرص دائما على تقديم نفسه على النحو التالي: صحفي، وكاتب وسياسي، وهو كما ترون ترتيب تفاضلي، ترجح فيه الكفة لفائدة الصحفي والصحافة.
ان المثالين اللذين أوردتهما، يمثلان خير دليل على كون الصحافة تمارس دور الساحر، على كل من يدخل محرابها، فليس من السهل على “الصحفي الحقيقي”، المتيم بحب القلم والورق، ومطاردة الخبر والحدث، وتحليل ما وراؤه بكل مهنية وبالاستناد الى عمق معرفي ومجتمعي، ليس من السهل على هذا “الرهط” من الصحفيين أن يقرر الاستئذان بالانصراف، كما حاول هيكل لكنه لم يستطع.
فالأمر في الحقيقة خارج عن ارادته، فلا حول ولا قوة له أمام سلطان وسطوة صاحبة الجلالة .. وبالتالي فان هذا “المحراب المقدس”، هو بمثابة أكاديمية افلاطون، لا يدخلها الا من كان “صحفيا” فلا مكان “للدخلاء” و “البزناسة” ..
ان حب المهنة، والتمسك بأخلاقياتها وميثاقها، يمثلان خير سند لضمان استقلاليتها، وبالتالي ضمان حرية الرأي والتعبير، فالصحفي ليس مجرد ناقل للخبر، ومقالاته ليست مجرد “برقيات” رسمية، بل هو كائن متعدد الأبعاد، ويشارك بما يكتب في صنع أكثر القرارات خطورة ومصيرية في حياة الوطن والأمة ..
وبهذا يكون الصحفي مثقفا عضويا، وفق التصور الغرامشي، يشارك بصورة ايجابية نحت صورة مجتمعه، ويؤثر في تكوين ما يسمى ب “الرأي العام” وأيضا في صنع السياسات.. وهو ما يعطيه أحقية الشهادة على عصره .. و بذلك لا يكون مجرد “موظف” عند هذه الجهة أو تلك.. فهو ثابت والجهات راحلة ووجودها أحيانا محل صدفة لا غير.
ان هذه “الأمانة” – كما نتصورها في فهمنا وتقديرنا -، هي مسؤولية لا يقدر على حملها كل من يشتغل في الحقل الصحفي والاعلامي، بل هناك فئة معينة، يقع اصطفاؤها لهذه المهنة، من أولئك الصحفيين، الذين سخروا جهدهم ومالهم ووقتهم…الذين سخروا كل ذلك وأكثر لإعلاء شأن “الكلة المؤثرة”، وهم من الذين توفرت لهم ، دون غيرهم، “قدرة” و “ملكة” و “ذكاء” و “فطنة” … وأكثرها خاصيات لا تقتصر على “الموهبة” فقط، برغم أهميتها، بل أنها خاصيات تكتسب مع الأيام، لمن يصابر ويجتهد ولا يستعجل..
ان “ظروف خلق” صحفي مهني ومؤثر يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، وهي في بعض مسارات حراك الأمم تصبح “حاجة” بل لا نبالغ بأنها قد تتحول الى “مطلب مجتمعي”، وحدها التحولات الكبرى، وفطنة البعض من العاملين في القطاع، تعد ظروف أو “خميرة” لبروز “صحفيين كبار” أقصد هنا “كبار في درجة تأثيرهم” على المجتمع وعلى صاحب القرار أيضا.
Comments