حركة "النهضة": "من الجماعة الى الحكم"، الوعي المبكر بالمسألة السياسية / 2 من 30/
منذر بالضيافي
إن الإجابة على الأسئلة “الحارقة” التي طرحناها في المقال الأول وغيرها من الأسئلة التي ما تزال تبحث عن أجوبة في علاقة بالتخوفات الموجودة سواء من قبل النخب أو قطاع كبير وواسع من المجتمع التونسي من “مشروع” حركة “النهضة” الاسلامية، وخاصة السؤال المركزي والمهم والمتعلق بجدية ومبدئية التحول المعلن عنه من “جماعة دعوية” الى حزب سياسي ديمقراطي له مرجعية محافظة، على غرار تجربة الأحزاب المسيحية الأوروبية، خصوصا بعد تأكيد زعيم الحركة ومنظرها راشد الغنوشي، بأن حركته قد قطعت مع “الاسلام السياسي” وأنها اليوم تصنف ضمن “الاسلام الديمقراطي”.
البحث عن أجوبة موضوعية لأسئلتنا يفترض ضرورة العودة لتتبع مسارات “الاسلامية التونسية”، نشأة وتطور الحركة الإسلامية في تونس –ممثلة في حركة النهضة – . وهو اجراء منهجي مهم، سوف يساعدنا في فهم الظاهرة وبالتالي يساعدنا لاحقا في الحكم والمراجعات المعلن عنها، وهل أنها تتنزل في سياق دينامية داخلية أم أنها مسقطة ولا تعدو أن تكون الا “تقية” في طريق “التمكين” للمشروع الاسلامي الذي تضمنته أدبيات الحركة في نشأتها الأولى خاصة. اضافة الى أنه سيمكننا من التثبت من صدقية تصريحات وأدبيات قياداتها وخاصة راشد الغنوشي، واختبارها في سياق تجربتهم وممارستهم.
تذهب تقديرات أغلب الباحثين المتابعين، لظاهرة الاسلام السياسي في تونس، الى التأكيد على “خصوصيتها التونسية”. و أنها نتاج أو إفراز للسياق التاريخي والاجتماعي التونسي. وكذلك امتحان مدي جديتها في تمسكها بالاحتكام للديمقراطية كخيار وكقناعة مركزية كأداة ومنهج للتداول على السلطة. وهذا يفترض التذكير بالتطور التاريخي لحركة النهضة (الجماعة الإسلامية، حركة الاتجاه الإسلامي، ثم حركة النهضة)، وعلاقتها بالمجتمع والدولة في تونس. ثم بعد ذلك تشريح ممارساتها وخطاباتها بعد الثورة وخلال فترة الحكم .
1/ الوعي المبكر بالمسألة السياسية
أول ما يمكن ملاحظته، ونحن نتتبع نشأة وتطور ظاهرة الإسلام السياسي في تونس، هو العلاقة المبكرة للإسلاميين بالساحة السياسية وبالفاعلين فيها. حيث اختارت الحركة الخروج مبكرا لساحة العمل السياسي العلني، بعد عشرية واحدة من حضورها في العمل الدعوي. عندما أعلنت في سنة1981، مباشرة بعد سماح نظام بورقيبة بالتعددية الحزبية، عن تحولها إلى حزب سياسي “مدني”، وغيرت اسمها ليصبح “حركة الاتجاه الإسلامي” في دلالة التأكيد على مرجعيتها الدينية.
كما ستمكننا هذه العودة لنشأة الظاهرة من فهم المنطلقات النظرية وكذلك خصوصية الحركة الإسلامية في تونس، التي سنري أنها استمدتها من خصوصية مجتمعها. ولعل المحافظة عليها يعد شرطا ضروريا للاستمرارية، وأيضا للقبول بها في المشهد السياسي. وهذا ما يزال محور وموضوع اختبار للإسلاميين الى حد كتابة هذا المقال.
إن استعادة الماضي لا تعني –أو بغاية- التأريخ لهذا التيار، بل أنها ضرورة منهجية تمكننا من التعرف على المتن الإيديولوجي والسياسي للحركة. وكذلك البيئة التي نشأت فيها الظاهرة الإسلامية في تونس. وبالتالي وصل الماضي بالحاضر، والوقوف عند الأسس والمنطلقات التنظيمية والفكرية لهذا التيار، والتي نقدر أنها ستبقي متحكمة في كافة مراحل تطوره وستطبع أداؤه السياسي وستكون محددة في قبول الإسلاميين بالديمقراطية من عدمه.
وهذا ما سيسهل علينا الوقوف عند مدي قبول الحركة بوصفها التيار الإسلامي الغالب والمؤثر، بفكرة التداول السلمي على السلطة، وهي مسألة ملحة خاصة اثر وصولهم للحكم، بعد الفوز في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011، انتخابات أجمع كل المراقبين على أنها كانت حرة ونزيهة، نقلت لهم على إثرها السلطة بشكل سلس، واستمر وجودهم في الحكم حتى بعد خسارتهم لانتخابات 2014، اذ أنهم حافظو على مشاركتهم في الحكومة وفي الحكم، طيلة الثمانية سنوات التي أتت بعد الثورة.
مشاركة في الحكم صاحبتها – ولا تزال – تخوفات لدي النخب العلمانية وقطاعات واسعة في المجتمع. من إمكانية تنكر النهضة إلى الخيار الديمقراطي الذي أوصلها للحكم. واستعادة الخطاب الذي كان سائدا في “فكر البدايات”، وخاصة في العديد من المقالات المنشورة في مجلة “المعرفة” – التابعة للجماعة – بين 1972 و 1975 ، والتي كانت تحصر فكرة التعددية الحزبية في حالة عدم وجود الدولة الإسلامية فقط، وتري بأنه لا وجود لتعددية في الدولة الإسلامية، التي لا مكان فيها لغير “حزب الله”/1/.
ترجع بدايات العمل الإسلامي “الحركي” في تونس، إلى نهاية ستينات القرن الماضي، وهذا ما تشير إليه مختلف أدبيات الحركة الإسلامية وكذلك شهادات رموزها وقياداتها من الذين التقينا بهم.
وكانت في انطلاقتها بمثابة ردة فعل من شباب متحمس للفكرة الإسلامية، على ما اعتبروه تهميش للإسلام ولمؤسساته التقليدية (القضاء الشرعي والحبس والتعليم الديني ممثلا في جامع الزيتونة…)، من قبل دولة الاستقلال ومشروعها التحديثي بزعامة الحبيب بورقيبة. بل أنهم كانوا يرون أن تجربة بورقيبة التحديثية، قائمة على محاربة الإسلام كدين للبلاد والمجتمع/2/.
ما يكشف أن الجماعة تعمل على التأسيس لمشروع مجتمعي بديل، وليس مجرد حركة إصلاحية تروم إعادة سؤال الهوية إلى الحراك المجتمعي والثقافي العام في البلاد. فهل استطاعت بعد مرور حوالي نصف قرن على انبعاثها (بداية السبعينات) التخلي عن هذا الحلم؟
يري راشد الغنوشي أن الحركة الإسلامية في تونس، “ممثلة في خطها العريض في السبعينات بـالجماعة الإسلامية” وفي الثمانينيات بـ”حركة الاتجاه الإسلامي” ثم “حركة النهضة” منذ نهاية الثمانينيات، قد ولدت من رحم المجتمع التونسى/3/.
مشيرا الى أنها تعد استجابة لمطلب مجتمعي في الدفاع عن الهوية. بما يبرز أنها كانت في الأساس نتيجة تفاعل مع محيطها التونسي، لكنه لم يعرف عنها تفاعلها مع الإسلام التونسي الزيتوني. وهي أيضا ليست مجرد استنساخ لتجربة الإخوان المسلمين في المشرق العربي. وان كان هذا لا ينفي تأثرها بهذا التيار الذي تجاوز حدود تأثيره مصر والمشرق العربي، ليتحول إلى حركة “إحياء” إسلامية ذات طابع أممي. بصفته التيار الغالب والمهيمن – منذ أكثر من ثمانين سنة بعد أن أسس حسن البنا جماعة الاخوان-، لما سيعرف لاحقا بالحركة الإسلامية أو الإسلام السياسي.
لقد فاجأ بروز الظاهرة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي، النظام السياسي البورقيبي، وكذلك النخب الفكرية والجامعية. على اعتبار وأن البيئة التحديثية التونسية آنذاك كانت في نقيض مع كل أشكال تصور ممكن ل”عودة المقدس”، ليتحول إلى مطلب إيديولوجي للشباب الطلابي التونسي/4/.
وارتبط بروز هذه الظاهرة بالوسط المديني/الحضري لا الريفي/*/. على خلاف التصور الذي كان سائدا لدي الباحثين والجامعيين وخاصة المشتغلين في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، الذين ربطوا كل عودة “متوقعة” أو “ممكنة” للممارسات الدينية في العالم الإسلامي، بكونها ستكون معبرة عن إستراتيجية سياسية، تتزعمها الأرستقراطية الدينية وكبار مالكي الأراضي من الذين توترت علاقاتهم بالنظام.
يتبع …
Comments