حركة "النهضة": "من الجماعة الى الحكم"، التفاعل مع البيئة الاجتماعية والسياسية / 3 من 30/
منذر بالضيافي
ارتبط ظهور الحركة الإسلامية في العالم العربي ومنه تونس بعاملين اثنين: تمثل الأول في وقوع حوادث تاريخية كبري، في حين ارتبط العامل الثاني بفشل النمط التنموي لدولة الاستقلال أو “الدولة-الأمة” وفق المنظور الغربي.
استفاد الإسلاميون في تونس وفي العالم العربي من هزات اجتماعية وأزمات سياسية سابقة حدثت في العالم العربي. فقد ساهمت الأحداث السياسية التي عرفتها المنطقة في دعم حضور الحركة الإسلامية في المجتمعات العربية، ومنها نكسة 1967، والتي تحولت إلى انتكاسة كان من علاماتها تراجع التيار العروبي (القومية العربية).
كما يمكننا التنبيه إلى أن الصعود القوي للحركات الإسلامية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات هو إفراز لانتشار فكرة مشروع “النهضة الإسلامية الكبرى أكثر منه إفرازاً لدور البطالة والأزمات الاقتصادية، وإلا كيف نفسر تواجد هذه الحركات في بلدان الخليج العربي الغنية بنفطها وبدخلها الفردي الخام” /8/.
يرجع بعض الباحثين الظهور القوي للإسلاميين في تونس زمن بورقيبة، “بقدراتهم” السياسية في التفاعل أو “التدافع” (مفهوم قراني يستعمل بكثرة في أدبيات الإسلاميين) مع الوضع السياسي والاجتماعي، الذي كانت تعيشه البلاد في نهاية السبعينات من القرن الماضي، والتي تميزت بالصدام القوي بين نظام الرئيس الحبيب بورقيبة والاتحاد العام التونسي للشغل، الذي مثل مقدمة لأحداث انتفاضة 26جانفي 1978، التي هزت النظام الاقتصادي والاجتماعي، وأيضا البنية السياسية للنظام، من ذلك أنها سرعت بالدخول في إصلاحات، طالت لأول مرة الجانب السياسي والحقوقي، من خلال السماح بتكوين الأحزاب، وبداية القطع مع هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السياسية، الذي هيمن على المجتمع، موظفا مؤسسات وأجهزة الدولة لفائدته.
هذا ما أشار اليه راشد الغنوشي في مقال مطول تحت عنوان : “أطوار من نشأة الحركة الإسلامية في تونس.. من القرية الى الزيتونة” /9/، حينما بين قدرة الحركة على “التدافع” مع محيطها المحلي والدولي. مشيرا إلى تفاعل التيار الإسلامي الحديث الذي ولد متتلمذا أساسا على تيارات الحركة الإسلامية المشرقية (الاخوان المسلمين)، مع رياح الإحداث العاصفة داخل البلاد وخارجها، مثل أحداث المواجهة العاصفة بين الدولة وبين الحركة النقابية.
كما تفاعل مع بدايات ظهور الحركة الديمقراطية وحركة حقوق الإنسان، وتفاعل خارجيا مع بعض التجارب الإسلامية التجديدية مثل التجربة السودانية بصدد مشاركة المرأة ودورها الفاعل، والتجربة الإيرانية في أبعادها الثورية المنتصرة للمستضعفين (البعد الاجتماعي الذي كان حكرا على التيارات اليسارية) ومع الفكر الاجتماعي لمالك بن نبي وعلي شريعتي، كان لهما دورا كبيرا في التكوين الفكري والسياسي، للجيل الأول أو المؤسس للحركة الاسلامية في تونس.
وقد كان لهذا الانفتاح على أوضاع الصراع الاجتماعي في الداخل، والتي كانت حكرا على التيارات اليسارية (في الجامعة وفي العمل النقابي)، وتجارب التغيير الثوري في إيران، والفكر التاريخي والاجتماعي من خلال أعمال المفكر الجزائري مالك ابن نبي /*/، الأثر الايجابي في الخروج من بوتقة الفكر الإسلامي التقليدي، ومن أدبيات الإخوان التي كانت المصدر الأساسي، في تكوين الرعيل الأول والمؤسس للجماعة في تونس.
وهو ما “أثمر مراجعة مهمة جدا لفكر النشأة الأولى المحافظ، في اتجاه استيعاب لمنجزات الحداثة على صعيد حقوق المرأة والإنسان والمواطن وتأصيل الفكر الديمقراطي والانحياز إلى قضايا العمال والمستضعفين. فكان لذلك أثره المقدر في امتداد أسباب الحوار والتواصل والتعاون مع قطاع واسع من الحركة الديمقراطية التونسية، ومع الحركة القومية ومع منظومة حقوق الإنسان العالمية ومع كثير من القوى التحررية. كما كان له أثره في قطاعات واسعة من التيار الإسلامي في الإقليم وفي العالم في اتجاه التفاعل الإيجابي مع الفكرة الديمقراطية والتيارات العلمانية الحاملة لها” /10/.
وسيكون لهذا التفاعل ثمراته في تعاطي حركة “الاتجاه الاسلامي” ثم “حركة النهضة” لاحقا مع الشأن السياسي في البلاد، سواء في علاقة بالسلطة أو ببقية القوي والأحزاب السياسية.
وهو “تفاعل” ما زال خاضعا ل “الاختبار” و “الامتحان” حتى بعد وصول الاسلاميين الى سدة الحكم، بعد ثورة 14 جانفي 2011. وهي خصوصية ساعدت على “إدماج” الإسلاميين في المشهد السياسي التونسي، ما بعد الثورة.
كما يحسب لهذه الخصوصة التي جلعت الباحثين يتحدثون عن “الاسلامية التونسية”، في الابقاء على شعلة تواصل مسار الانتقال الديمقراطي، الذي فرض على “النهضة” اجراء مراجعات مفادها التبرؤ من ارث تيار الاسلام السياسي، لصالح تبني فكرة “الاسلام الديمقراطي”، أسوتا بالمثال الأوربي، ونعني هنا “المسيحية الديمقراطية” (سنخصص مقال في هذه السلسلة لمخرجات المؤتمر العاشر الذي تناول بالدرس والموافقة على المراجعات خاصة المتصلة بالفصل بين الدعوي والسياسي أو التخصص داخل الحركة)/*/.
ولا يفوتنا الاشارة الى أن هذه الخصوصية التونسية والوعي المبكر بالمسألة السياسية، قد ترجم من خلال توفق النهضة إلى إجراء صيغ عمل مشتركة مع المعارضات اليسارية والعلمانية، خلال فترة بورقيبة الأخيرة، و خلال العشرية الأولى من حكم بن علي. وبرزت خاصة أثناء فترة “الاستئصال” أو “الاجتثاث” التي تعرضت لها الحركة من 1991 الى 2010.
وهنا، نشير الى “الكتلة التاريخية” التي شارك فيها الاسلاميين زمن حكم بن علي على أرضية مقاومة سلطوية النظام، ضمن ما يعرف بحركة 18 أكتوبر. والتي مكنت الاسلاميين من كسر الطوق والحصار الذي فرضه عليهم نظام بن علي، الذي يحسب له كونه قد نجح في تأليب التيارات الحديثة ضد النهضة وتخويفهم منها ومن مشروعها السياسي والمجتمعي، لينقذ في مرحلة لاحقة على الجميع.
وقد مثلت حركة 18 أكتوبر الاطار الذي سمح بعودة الاسلاميين لساحة النشاط السياسي، واستعادة مظاهر التواصل مع بقية مكونات المعارضة بما فيها أقصي اليسار، وكانت هيئة 18أكتوبر/*/، جبهة لقوي المعارضة ضد نظام بن علي، وضمت كل أطياف المعارضة بما فيها الاسلامية، ممثلة في رموز من حركة النهضة، الذين تم الافراج عنهم بعد سنوات طويلة من السجن /11/.
كما استطاعت حركة النهضة بعد الثورة أن تربط شراكات سياسية مع تيارات وأحزاب ديمقراطية وعلمانية وحتى دستورية، من ذلك أنها ارتبطت بشراكة خلال فترة حكم “الترويكا” التي تزعمتها، مع حزبين من خارج المنظومة الاسلامية، هما المؤتمر من أجل الجمهورية بقايدة الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وحزب التكتل بزعامة مصطفى بن جعفر، الذي ترأس المجلس الوطني التأسيسي.
وتواصل تنسيق “النهضة” مع الأحزاب العلمانية والديمقراطية (التسمية اجرائية لفهم التباين بين الاسلاميين وبقية الأحزاب)، اذ نسجت “توافق” بعد انتخابات 2014 التي حلت فيها في المركز الثاني، مع حزب “نداء تونس” بزعام الرئيس الباجي قايد السبسي، الذي فاز عليها في الانتخابات وقاد حملته الانتخابية على “شيطنتها’ ، وهو ما يحسب لحسن الادارة السياسية للمرحلة من قبل النهضة، سواء في علاقة بفك العزلة عن الحركة، أو باستمرار مسار الانتقال الديمقراطي، توافق حكم كامل العهدة الانتخابية (2015- 2019)، وبرغم منجزه الاقتصادي والاجتماعي الضعيف، فانه ضمن حالة من الاستقرار بفضل حسن ادارة التعايش بين الاسلاميين وخصومهم.
يتبع …
Comments