“حكاية التسميم” في انتظار اليقين .. “تعاطف عربي” و “تجاهل أوروبي” !؟
المهدي عبد الجواد
بدأ الخبر في صفحة فايس بوك معلوم مناصرتها للرئيس قيس سعيد، ثمّ بــ “كرونيكور” شاب على إحدى القنوات التلفزية الخاصة. الرئيس تعرّض الى محاولة إغتيال، بواسطة “ظرْفْ” مسموم. وحتى يكون الخبرُ مُقنعا تمّ التوسّع في “مُتبّلات” القصّ. فقد تعرّضت السيدة الوزيرة مديرة الديوان الرئاسي الى “وعكة طارئة” فقدت فيها بصرها وتمّ نقلُها على عجلٍ الى المستشفى العسكري. ويُواصل القصّ العجيب اشتغاله، لتزداد الحكاية غموضا، السيدة الوزيرة هي التي “تعاملت” مع الطّرد المشبوه، الذي كان فارغا، ثم واستعدادا لجعل خاتمة الحكاية مفتوحة على التأويل، أتلفت السيدة الوزيرة “الماصو” في آلة قصّ الورق.
يتجوّل “الموضوع” في التسميات، بدأ “ظرفا مسموما” في الخبر غير الرسمي ثم صار “طردا مشبوها” في بيان الرئاسة، ثم عاد “ظرفا” في آلة إتلاف الورق وانتهى في وكالات الآنباء الدولية “محاولة تسميم الرئيس التونسي”. وبين كلّ هذا إشتغلت آلة الإعلام البديل وشبكات التواصل الاجتماعي للتعاطي مع الخبر. فالخبر في علوم البلاغة العربية هو “ما يقبلُ التصديق والتكذيب”. لذلك انقسم “الجمهور” الى فريقين، أنصار الرئيس و”خصومه”.
من كان مع الرئيس صدّق الخبر تعالت الاصوات الداعية لحماية الرجل المصلح “فداك يا قيس” “الا الرئيس” وبكر البعضُ وانتشرت فيديهوات المساندة، بل انطلقت البحوث حول أنواع السموم القاتلة، وانتشرت أسماء سموم مستعملة لا يتم رصدُها، السارين والزرنيخ والبلوتينيوم المشعّ، ونشر المثقفون قائمات في شخصيات تاريخية تمّ تسميمها. فيما حاول مكذبو الخبر البحث في تناقضاته ودفع مقدماته، والتجريح في رُواته. لم يكن ثمّة قرائن تؤكّد الخبر أو تدحضُه. وبدا الجميع في لحظة أشد قدما من الجاحظ رحمه الله، الذي صاغ مقاربة منهجية قوامُها الشك في الأخبار منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، لكن لا أحد استذكر الجاحظ أب النزعة العقلية وأحد رؤوس الاعتزال الإسلامي، كان الجاحظ أكثر حداثة ومازال أكثر “عقلانية” من أحفاده التونسيين.
كان بيانُ الرئاسة الجزائرية مُنعرجا في “حكاية التسميم”. فقد ورد فيه ” أجرى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، هذا المساء مكالمة هاتفية مع أخيه رئيس الجمهورية التونسية السيد قيس سعيد للاطمئنان على وضعه، بعد نبإ مُحاولة تسميمه”. لم يقرأ أحدٌ الخبر الجزائري، الذي تحوّل فجأة الى “قرينة الادانة” والعلامة الأكثر وضوحا على “صدقية خبر تسميم الرئيس”.
الجزائر الدولة الكبيرة، بلد المليون شهيد والجيش العتيد والمخابرات الماهرة “سليلة الكا جي بي” لا تُخطئ، إنها تعلم حقيقة الأمر، بل لعلّها هي من أخبر الرئيس، والبيان جاء “دفعا للشبهة”. البيان الجزائري ورد فيه “بعد نبإ محاولة تسميمه” يعني انه ورد بعد انتشار الخبر وخاصة بعد توضيح الرئاسة أثناء البرنامج التلفزي. ولعل البيان الرسمي الوارد بخصوص المُكالمة من الرئيس الجزائري دليل على ذلك، إذ لم تتضمن أية إشارة إلى هذه المسألة.
تحوّل الجدلُ تدريجيا نحو الاستقطاب التقليدي القائم بين “الغنوشي و سعيد”، فكل من يقف ضدّ النهضة سارع لتصديق الخبر، وأنصارُها ذهبوا لتكذيبه. ثم كان هاتف أمير قطر الشيخ تميم ومكالمة فائز السراج التي تبعها مباشرة مُكالمة الشيخ راشد لقيس سعيد “يستلطفهُ فيها” ثم بيان يتمنى الشفاء لمديرة الديوان الرئاسي. وكانت مهاتفة الرئيس السيسي خاتمة التفاعلات العربية. وأكد البيان “خبر التسميم” إذ جاء فيه “أعرب الرئيس المصري عن تضامنه الكامل مع رئيس الجمهورية ومع الشعب التونسي إثر المُحاولة الفاشلة لتسميم رئيس الدولة”. يردُ هذا بعد صدور كل الاختبارات الفنية من الجهات المختصّة والتي نفت وجود أية شبهات حول مواد سامة او مشعة او قاتلة. الامر الذي يُثير أكثر من سؤال حول تمسّك الرئاسة بقصة “التسميم”.
والأغرب هو ما ورد في خاتمة البيان الرئاسي التونسي ” وقد كانت هذه المكالمة فرصة للحديث عن تسميم العقول والأفكار لان السموم الزّعاف هي التي تستهدف الشعوب والدول قبل ان تستهدف الأشخاص والقيادات” إن هذه الخاتمة العجيبة صياغة وسياقا تفتحُ باب التأويلات الواسعة. فقد تحوّلت “إشاعة” إلى عملية استقطاب سياسية كبيرة. تكفّلت في البدْء بالالهاء على “هزيمة الرئيس” السياسية، بعد فشله في منع مرور التحوير الوزاري في مجلس نواب الشعب، الهاء يستردّ فيه الرئيس بعض التعاطف بالظهور في ثوب “الضحية”، قيس سعيد الرجل الطيب الغريب في عوالم السياسة البشعة، المُستهدف بالقتل من سياسيين مجرمين ومافيا الفساد المستعدّة لقتل “المسيح” المُصلح.
عملية الاستقطاب تمّ بعد ذلك تصديرها للخارج، للتموقع بين المحورين العربيين المتنازعين، ويبدو ان الرئيس سعيد يحتمي بشكلٍ من الإشكال بهما في نفس الوقت، فقد تقبّل مكالمات أمير قطر وحاكم مصر، ولكن الأغرب هو “التلميح إلى تسميم الأفكار” في ما يبدو إشارة خفيّة “للإخوان”، وهي مصطلح كثير التواتر في “السرديات الاستبدادية” في علاقة بالتيارات الفكرية والسياسية المُعارضة قبل “الربيع العربي”. هل يحتمي قيس سعيد الرئيس الديمقراطي من خصومه السياسيين في الداخل بخصومهم الإقليميين، ويُشهدُ عليهم حلفاءهم؟؟
قصة التسميم لم تُثر لدى جيراننا في الشمال اهتماما. فلم تصدر اية ردة فعل من الدول الأوروبية ولا حتى من سفرائها في تونس، والجميع يعلم ان المخابرات الغربية “ترتعُ” للأسف في تونس، ولا تغيب عنها الشواردُ والورائد. تتحوّل القصّة إلى “طردٍ ولو طار” ويتأكد ان تأثيراتها السلبية كبيرة جدا، ولعل بيان حزب “الشعب يُريد” الذي دعا فيه الى إقالة مديرة الديوان الرئاسي علامة على انشقاقات وصراعات في “حلف الرئيس” الذي يزداد انغماسا كلّ يوم. انغماس في عوالم المؤامرات والغُرف المُظلمة ويزيدُ من عزلته على الواقع السياسي التونسي.
غير أن للحكاية وجها آخر قد يكون فرصة، وتخلق إمكانيات إصلاحات كُبرى يُجريها الرئيس على فريقه الاستشاري والإعلامي من جهة، ويفتح المفاوضات مع خصومه للوصول الى تسويات ضرورية لحماية المسار الديمقراطي.
Comments