حكومة المشيشي .. احتمالات الفشل ومخاطر النجاح
المهدي عبد الجواد
تقتربُ المُهلة الدستورية على الانتهاء ولا جديد في أخبار تشكيل حكومة هشام المشيشي، غير أربع دقائق أعلن فيها عزمه على ان تكون حكومته من “كفاءات مستقلة تماما على الأحزاب السياسية”.
ووسط لامبالاة “شعبية” عامة، يبدو ان الأحزاب والكُتل الوازنة في البرلمان، أمام امتحان وجودي، يتجاوز مسالة مصادقة على حكومة أخرى، في سلسلة “حكومات فاشلة” منذ الثورة، ليتعلّق بوجود الأحزاب نفسها، والتساؤل على جدوى العمل الحزبي والحاجة الى انتخابات وتنافس سياسي، بله في منظومة الديمقراطية التمثيلية نفسها.
ان حكومة منفصلة تماما على سياق الانتخابات ونتائجها يُشكّل تهديدا صريحا “لبنية العمل الحزبي”.
كما يُثيرُ الصمت المبالغ فيه للسيد الرئيس المُكلّف تساؤلات كثيرة، حول مدى إمساكه بملف تشكيل الحكومة بمعزل عن “توجيهات الرئيس ومحيطه”، فثمة مخاوف كبيرة من ان يكون هشام المشيشي مجرد وزير أول لدى رئيس الجمهورية، وهو ما يُمثّل انحرافا على مقتضيات الدستور والنظام السياسي ويُنتج تداخلا بين رأسي السلطة التنفيذية لفائدة رئيس الجمهورية الذي سيبتلعُ صلاحيات رئيس الحكومة.
والأخطر من كلّ ذلك هو ما يُذكّر به “المسار الصامت” من رغبات غير خافية أعلن عنها رئيس الجمهورية في “حملاته التفسيرية” والتي لم يُخف فيها عداءه الصريح للأحزاب وللديمقراطية التمثيلية ترجمها في شعاره “فليرحلوا جميعا” وهو ما يعني ان الدفع نحو فشل المشيشي هو من صميم “استراتيجيا الهيمنة” لدى قيس سعيد. نجاح المشيشي يكمن في فشله.
الأحزاب السياسية…ضريبة القبول
لا يبدو ان مواقف الأحزاب السياسية متناسق في علاقة بقرار هشام المشيشي تشكيل حكومة بمعزل عنها. فالكثير منها رحب بهذه الفكرة لأسباب مختلفة. بعض الأحزاب التي لا تملك وجودا برلمانيا كبيرا، وانهزمت في الانتخابات الفارطة، تبدو مبتهجة بهذا القرار لأنه سيقوم بعملية “تسوية للرؤوس” وسيُعيد لزعمائها “حُرّاس الدكاكين” بعض اعتبار. وأحزاب أخرى وبخاصة الدستوري الحر تعتبر الأمر “إقصاء للإخوان” وسترى فيه انتصارا لخياراتها. وعلى النقيض من هؤلاء يعتبر العجمي لوريمي القيادي البارز في حركة النهضة أن الأحزاب ” لا يمكن ان تتنازل على حقها في تحمل مسؤولية فوضها ناخبوها” بل ذهب الى كون الحكومة التي تُقصي الأحزاب ” بدعة حكومة خارج شرعية الصناديق وخارج الإرادة الشعبية” وهي ” تنكر ماكر وانقلاب الناعم على نتائج الانتخابات تحت عنوان حكومة مستقلة تماما على الأحزاب” وهو تقريبا نفس موقف نورالدين البحيري رئيس كتلة حركة النهضة في مجلس نواب الشعب الذي قال “أن حكومة لا تعتمد نتائج الانتخابات هي حكومة انقلابات”.
هذا الموقف الواضح والصريح من حركة النهضة يُساندها فيه التيار الديمقراطي، فعبد الواحد اليحياوي يُوافق العجمي لوريمي في اعتباره فكرة حكومة خالية من الأحزاب قتل لها، إذ كتب تدوينة جاء فيها، انها “فكرة مضادة للأحزاب ليس لأنها فشلت في حكم البلاد ولكن لعدم قدرتها على حكم البلاد في المطلق….أي ضد فكرة الأحزاب نفسها والديمقراطية التمثيلية التي جوهرها تنافس الأحزاب” مُذكّرا في ذلك بموقف قيس سعيد المعادي لفكرة الأحزاب أصلا.
ويُحذّر القيادي في التيار الديمقراطي الأحزاب من التصويت على الحكومة المقبلة في “صيغتها المُعلنة”، لان ذلك “يعني أنها تقطع الغصن الذي تقف فيه وإنها تعلن قبولها بفكرة أن زمن الأحزاب انتهى، التصويت عليها يعني قبول الأحزاب أنها جثث سياسية” هذه الحدّة في الموقف من حكومة التكنوقراط تتخذ طابعا تشاؤميا عند غازي الشواشي الذي يرى انها حكومة محكومة بالفشل الحتمي، إذ “ستواجه معارضة من الجميع وقد تتسبب في انفجار اجتماعي وإفلاس اقتصادي وانفلات امني” لن يزيد إلاّ في ” تعميق الأزمات التي تمر بها بلادنا” الأمر الذي يُمكن أن ” ينسف مسار الانتقال الديمقراطي برمته”.
الاحزاب السياسية… ضريبة الرفض
يبدو من الوجيه اليوم ان لا تمنح الاحزاب السياسية ثقتها لحكومة لا تثمثّلها ولا تحترم نتائج الانتخابات. ولسانها يقول “اذهب انت وربُّك فقاتلا”، احرص على الحصول على الثقة في البرلمان، واحرص على حزام سياسي واحرص على دعم حزبي ومنظماتي وشعبي. و الامتناع على منح الثقة لحكومة المشيشي سيجعل امكانية حلّ مجلس نواب الشعب واردة، وهو ما يعني حالة من “الاضطراب المؤسساتي” اذ ستطول مدة حكومة تصريف الاعمال التي يرأسها الياس الفخفاخ، بما يعنيه ذلك من تعطل لعمليات الاصلاح وصعوبات في التفاوض مع الشركاء الاجتماعيين داخليا والمانحين خارجيا، وسط ازمة اقتصادية واجتماعية ومالية ومخاطر انفلات امني كبيرة.
كُلفة عدم التصويت ستكون غالية، و ستزيد في تحميل الاحزاب “وزر” الازمة، لكن الاخطر من ذلك هو ان حل البرلمان والذهاب الى انتخابات مبكرة بنفس الآليات سيقود الى نتائج مشابهة. وحتى عمليات سبر الآراء الاخيرة التي تمنح اسبقية للدستوري الحرّ، تمنح النهضة المرتبة الثانية ومن المُنتظر ان يحصل “حراك الرئيس” على نصيب وافر وهو ما يعني استدامة التنازع على الحُكم. هذا السيناريو لمّح اليه الياس الفخفاخ رئيس الحكومة المستقيل الطي صرح اليوم بكون ” اختيار تكوين حكومة تكنوقراط غير كاف ولا بدّ من ايجاد صيغة توافق” موقف يتباين فيه الفخفاخ على موقف رئيس الجمهورية وعلى موقف خلفه المُفترض، بل ان الفخفاخ دعا الى ضرورة احترام الأحزاب والبحث على صيغ للتوافق معها في البرلمان مع التأكيد على ضرورة ” إيقاف مسار التشويه والعبث بمؤسسات الدولة ورجال الدولة، وإلا فان الدولة ستحكمها العصابات”
بقي ان فشل هشام المشيشي قد يقود الى معركة “تأويل دستورية” ففي غياب محكمة دستورية يُذكّر الرئيس قيس سعيد دائما بانه المُخوّل حصريا تأويل الدستور، وفي ذلك مخاطر “سطو” السلطة التنفيذية على مهام السلطات الأخرى، ونحن نعرف ان فقهاء دستوريون مختلفون حول مدى “الحق في حلّ مجلس نواب الشعب” في صورة عدم المصادقة على الحكومة.
ان مصير حكومة المشيشي، يبدو شبيها بمصير حكومة الجملي. ولعله في هذه الساعات الأخيرة من المهلة الدستورية شبيه بحكومة الياس الفخفاخ. وتكثُر في هذه الساعات المناورات و”عضّ الأصابع”. ولكن أمر نجاحها يبدو صعبا، بقطع النظر على مسألة منح الثقة او حجبها. و من المنطقي ان لا يجد المشيشي تجاوبا عميقا من الأحزاب السياسية، فعليها احتراما لوجودها ولدورها وحماية للانتخابات والديمقراطية ان تنآى بنفسها على من يروم “الغاءها”، بل لعل المشيشي مُكلّف هو نفسه بخلق هذا المناخ المُتوتّر مع الاحزاب. ان مخاطر نجاح المشيشي هي نفسها مخاطر فشلها. وعندما يستوي الفشل بالنجاح يكون الحال على ما نحنُ فيه، وتُصبح كل الفرضيات مُمكنة.
Comments