حكومة المشيشي .. “حيرة” و “عجز” الأحزاب !
شعبان العبيدي
ورد في البصائر والذخائر للتوحيدي حكى أبوهفّان قال: كان مزين يخدم رئيسًا، وكان الرئيس قد خالطه بياض، فكان يأمر المزين بلقطه، فلمّا انتشر البياض وتفضّع الشيب قال المزين: “يا سيّدي لقد ذهب وقت اللّقاط”، فبكى الرئيس من قوله.
مثل يمكن أن يكون علامة رمزية موجّهة للأحزاب السياسية التّونسية التي وجدت نفسها خلال هذه المرحلة من المدةّ النيابية أمام امتحانين هاميّن في بناء حكومة فاعلة قادرة على مواجهة الواقع المأزوم والأخذ بجديّة الملفات العالقة والقضايا الاجتماعية والاقتصادية الحارقة، ولكنها سقطت مع سقوط حكومة الرئيس الأولى التي استمات في الدّفاع عنها كلّ من التيار وحركة الشعب.
ثمّ الانتظار والترقّب المحوطين بشيء من الرّيبة من ولادة حكومة المشيشي حكومة الرئيس الثانية، التي ينتظر أن يقع الإعلان عنها غدا، تعيش الأحزاب خلال هذه المرحلة لحظات من التوجّس الخفيّ ومراقبة المشهد وردود الفعل السياسية، فهل حسمت الأحزاب أمرها فيما يخصّ اختيارات المشيشي لحكومته؟ أم أنّها مازلت تخاتل بعضها حتّى الدقائق الأخيرة في التعبير عن مواقفها؟ وهل ستحرز حكومة المشيشي ” حكومة الكفاءات أو التكنوقراط” على صكّ العبور والجواز إلى القصبة؟
نشير في البدء، بقطع النّظر عن الشخصيات التي سيقدّمها رئيس الحكومة الجديد، إلى رغبة عارمة لدى الجماهير التونسية في أن تهاجر الأحزاب صراعاتها السابقة و معاركها التي وضحت بها مشاهد المجلس التشريعي وحوّلته إلى حلبة للتهريج والسباب وتشويه صورة التجربة الديمقراطية داخليا وخارجيا وإضاعة الوقت بل إضاعة الفرص على التونسيين في الوصول إلى حكومة قارة تنقذ البلاد و تمنحهم بريق أمل في المستقبل.
ونحن نقول لهذه الأحزاب: لعلكم تدركون خلال هذه المرحلة الجديدة من السنة النيابية و أمام عرض الحكومة الجديدة التي لا شكّ أنّها ستكون حاملة لأسماء من أبناء الإدارة التونسية، أن زمن اللّقاط والتنقير لبعضكم البعض وتتبّع عثرات هذا لذلك واستخدام أساليب التشويه وسياسات الملفات و ترديد تهمة الفساد بدليل ومن دونه، وانه قد جاء زمن هجر هذه الأساليب العدائية والخطابات التي تحرّض على العنف وتحدّي قوانين الدّولة والقطع معها فقد حان وقت الجدّ والتوجّه نحو القضايا الوطنية التي لا تحتمل صراعاتكم وخلافاتكم العقائدية ومزايداتكم.
ذلك هو أمل الشعب والجماهير في أن تكون هذه المرحلة بداية لحكومة قارة فاعلة قادرة على إيقاف النزيف الاقتصادي والمؤسساتي والاجتماعي، ولذلك لا يجب أن تحكم المصادقة عليها الحسابات السياسية الضيّقة والمناورات والبيع والشراء والولاءات وأن تمنحها الأحزاب ثقتها لأنّ واقع البلاد لم يعد مزيدا من التأخير والعناد الأعمى.
يبدو من جهة ثانية بقطع النظر عن طبيعة الأسماء “المستوزرة” الجديدة، وما وقع تداوله حولها وما بدأ يروج حول انتماءات أصحابها وعلاقتها بالنظام القديم وملفاتها الأمنية والأخلاقية أنّ الأحزاب بعد المشاورات لم تصدر عنها مواقف واضحة باستثناء الائتلاف الذي عبّر عن رفضه مسبّقا لحكومة المشيشي وتمشيه.
نرى أنّ الأحزاب المصطفة وراء مقولة “حكومة الرّئيس” والأخرى المصطفّة وراء “عزل النهضة” تلتقي في صمتها عن إبداء أيّ موقف. في الوقت الذي تبقى فيه حركة النهضة كذلك متكتمة عن موقفها رغم بعض التصريحات التي عبّرت عن أسفها ورفضها لعدم إشراك الأحزاب، وكأن الأحزاب تنتظر مواقف بعضها وتحاول أن تستقرئ موازين القوى قبل أن تحسم أمرها في التصويت للحكومة.
وليس بعيدا أن تفاجئ النهضة المتابعين للمشهد السياسي بتصويتها للحكومة وكذا الأمر بالنسبة إلى قلب تونس لمزيد إحراج خصومها وسحب بساط محاولة عزلها.
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن التيار وحركة الشعب ومشتقات خريطة نداء تونس قلبها ومفتاحها ونخلتها ونداؤها ستكون في نفس اتّجاه التصويت للحكومة الجديدة.
خلاصة ما نريد الإشارة إليه أنّ التعامل مع تشكيلة رئيس الحكومة الجديد من طرف الأحزاب يبقى محكوما بمواقف ذاتية وانفعالية وحسابات سياسية سواء بالنظر إلى الحكومة أو بنظر الأحزاب إلى بعضها.
ونعتبر أنّ ما صدر من بعض الشخصيات السياسية المعبّرة عن عدم رضاها على توجّه المشيشي في إبعاد تشكيلته عن التجاذبات السياسية واقتسام المناصب ما هي إلاّ مواقف عابرة لا تكشف عن حقيقة توجّه الأحزاب المنتظر.
من الحكمة اليوم الترفع عن كلّ هذه الحسابات ومنطق سياسة الاتّهامات لكلّ الشخصيات المختارة والتوجّه إلى التعامل مع الحكومة المنتظرة من منطلق قدرتها من عدمه على مواجهة مشاكل الدّولة والمجتمع وتحقيق السلم الاجتماعي والإصلاح وإنقاذ الاقتصاد من الوضع الكارثي الذي تردّى.
فالوضع مشاكله عميقة أعمق من المناورات السياسية حين ننظر إليه بعيون نافذة ونقاربه مقاربة موضوعية في ظلّ الواقع الوطني والإقليمي والدّولي بعيدا عن العنتريات والعقائديات المتحجّرة.
Comments