الجديد

حين تسقط الثورةُ تَـــعُم الفوضى

غازي معلى
إني متفائلٌ بالمتظاهرين التونسيون لكني متشائمٌ بما يسمى “انتفاضة “. أملُ المتظاهرين ســـيَــخيب من جديد من هذا الحراك كما خاب أملُـــهم من الدولة. غالبيةُ المتظاهرين أناسٌ طـــيّــبون، أصحابُ شكوى، لكن ولاءاتِ محرّكي التظاهرات هي نفسُـها ولاءاتُ الطبقةِ السياسية.
منذ عقود، أي منذ نشوء دولة تونس الحديثة ، و تونس تحكمها نفسُ الطبقة السياسية. تتغير الأسماء وتبقى القبائل والعشائر والعائلات نفسها. تتغير المســمِّــــيات (أحزاب، تيارات، حركات، منظمات) وتبقى الذهنية هي نفسها.
أهذا قدرُ تونس أم هذي هي تونس ، بل هذا هو الانسان؟ عملياً، حين نطالب جغرافياً بتغيير النظام التونسي بوجهه الفاسد، نكون نطالب تاريخياً بتغيير الطبيعة البشرية التي يشكل الفساد أحدَ مكوناتها الاجتماعية في كل زمان ومكان وفي ظل أي نظام ديكتاتوري أو ديموقراطي وفي أي دولة متقدمة أو نامية.
إن حركات الاصلاح الاجتماعي والأخلاقي في العالم اصطدمت بالطبيعة البشرية وليس بنوعية النظام السياسي أو الدستوري فقط. لقد تعاطف التونسيون مع كل مشروعٍ إصلاحي، و لكن حين يُخفِق الاصلاحُ تُـــطِل الثورة. وحين تُـــطِل الثورةُ يَـــكــثُر العـــرّابون. وحين يكـــثُر العـــرّابون يَـنقسِم الثوار. وحين ينقسم الثوار تسقط الثورة. وحين تسقط الثورةُ تَـــعُم الفوضى كنظام واقعي بأشكال شتى.
فعدا ضحايا “الربيع الأميركي” المتــنقِّـــل، إن ضحايا حروب أنظمة الثورة الفرنسية فاقت ضحايا حروب الملكية الفرنسية. مئة وعشرون سنة استغرق استقرارُ الجمهورية الفرنسية بعد ثورة 1789. وثلاثية “حرية، أخوة ومساواة” ما كانت تحتاج كل هذه التضحيات، فهذه المفاهيم الثلاثة موجودة في كل كتب الدين والفلسفة.
و اذا تحدثنا عن ثورة فلسفياً نتحدث عن اليسار و لكن اليسار ليس جُزءاً من مكــــوِّناتنا التاريخية، بل من رفاهـــيِّـــتنا الفكرية. نمطُ حياة التونسيين عموماً يساريٌّ بيومياته، لكن اليساريةَ ليست عقيدةَ التونسيين . فاليسارُ بنظر التونسيين ليس ضدَّ اليمين بل ضدّ الدين. والدين، بمفهوم الحرية، هو أساسُ نشوءِ الدولة التونسية.
لذلك، يَجدر بالناس الذين ينزلون إلى الشارع أن يكونوا قوةَ ضغطٍ وتغيير لينجحوا، فينتصر الشعب، لا ثورةً وفوضى فيفشلوا، ويُربِّــحوا خصومهم. الشعبُ يراهن على شجاعتهم والطبقةُ السياسية تراهن على تهوّرهم. شأن هذه التظاهرات أنها تستعيد النبض التونسي وتطلق منهجيةً أخلاقية للتعاطي في الشأن العام مختلفة عن الماضي. هذه تظاهرة المجهولين من أجل قضايا شفافة. مجهوليةُ هذه الظاهرة الشعبية هي قوتها إذ تعطّل استغلالها. واللحظة التي تُجــــيّر التظاهرةُ زخمَها وقضيتها لشخص أو أشخاص مشبوهين أو فاشلين أو حاقدين، أو مغرورين، أو عقائديين، أو منتحلي صفة ودور، تنتهي الانتفاضة، ونخسر جميعاً فرصة التغيير. أبعدوا المعلومين لتبقوا شــــفّــــافين.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP