الجديد

خالد شوكات يتساءل : “هل ثمّةَ حاجة ل “دولة عميقة” جديدة ؟”

خالد شوكات

تَرِدُ عبارة “الدولة العميقة” في سياق سلبي غالبا، خصوصا خلال السنوات العشر الأخيرة من الربيع العربي، باعتبارها أحيانا المؤسسة الخفية التي تمثل النظام القديم، وأحيانا تلك الجهة الباطنية التي تؤطر الثورة المضادة رفضا للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأحيانا ثالثة تلك المافيا التي ترعى مصالح الطبقة النافذة اقتصاديا وثقافيا أو حتى جماعات الاقتصاد الموازي وعصابات التهريب وغسيل الأموال والجريمة المنظمة.

وواقع الأمر أن انحراف الدولة العميقة وارد، ولكنه ان حدث فغالبا ما يؤشر لانحراف الدولة نفسها، كما حدث في روسيا وبعض دول اوربا الشرقية مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، أو في بعض دول أمريكا اللاتينية عندما تتمكن كارتيلات المخدرات من اختراق قلب الدول والحكومات والهيمنة على مراكز القرار. لكن ما يكاد يجمع عليه مفكرو الدولة من جميع المدارس والتيارات الأيديولوجية والسياسية، أن جميع الدول مهما كان نوعها تحتاج الى وجود مؤسسة “الدولة العميقة” التي تتدخل لمنع انحراف مؤسسات الحكم عن خط الدولة العام وثوابتها وطبيعتها.

فالدولة العميقة هي “سرّ” الدولة الاكبر وضمانة وجودها الاساسية، ذلك ان القوانين لا تستطيع وحدها ان تنظم كل شيء، وان اختراق الدولة الظاهرية وارد باستمرار، ولا بد من وجود آليات تتحرك للحيلولة دون وصول تأثيرات الاختراق حدّا يهددّ بالانهيار العام. ولا تختلف الدول الديكتاتورية وتلك الديمقراطية في شأن الدولة العميقة تقريباً، فقد تحرّكت هذه الدولة خلال الستينيات من القرن الماضي في الاتحاد السوفيتي لإقالة الرئيس نيكيتا خورتشوف تقديرا لتهديد تصرفاته الأمن القومي والمصالح العليا.

ويقال أن اغتيال الرئيس كينيدي كان عملا من اعمال الدولة الامريكية العميقة، بل لا يتردد كثير من المحللين في القول بان ما يجري للرئيس ترامب الان ما هو الا نتاج مخططات هذه الدولة. كما تشير دلائل كثيرة على ان الدولة الهولندية العميقة هي التي وضعت حدا لحياة الزعيم الشعبوي الصاعد بيم فورتاون الذي اغتاله احدهم سنة 2002، وقيل انه من أنصار البيئة حينها لكن لا احداً في لاهاي صدّق هذه الرواية، وكانت من نتائج ذلك الاغتيال المباشرة اضعاف تهديد اليمين الشعبوي الجديد لأسس الدولة الديمقراطية العريقة إلى الحد الأدنى، وهو ما شجَّع على احالة العملية فعلا للدولة العميقة.

أما استقدام القادة وصناعة الزعماء وتمهيد الرئاسة لهم بما يتفق مع أسس الدولة وتوجهاتها كما تراها الدولة العميقة، فالامثلة عليها كثيرة تكاد لا تحصى، من أشهرها حالة الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، وعديد الرؤساء في الشقيقة الجزائر منذ رحيل الرئيس بومدين والى يوم الناس هذا، وكذلك الحال في الشقيقة مصر، وفي ماينمار (بورما سابقا)، على ان الدولة العميقة لا تتصرف بالطريقة نفسها ووفق السيناريو ذاته ان استشعرت الخطر وتيقنت من وجود مهددات للدولة ومؤسسات الحكم التي تحرسها.

تختلف الدول في ايداع أسرارها الكبرى، واختيار أي مؤسسة يمكن أن تتحمل ذلك، فعدد كبير من الدول تختار المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، وتمنح الامر طابعا سرّيا غالبا، لكن دولا اخرى اختارت طابعا علنيا بل دستوريا لدولتها العميقة، كما هو حال الجمهورية الاسلامية الايرانية حيث منحت نظرية ولاية الفقيه مؤسسة المرشد الاعلى للثورة، أي الولّي الفقيه، هذه المهمة في حراسة القيم العليا للدولة الاسلامية وأعطتها قوة القانون والدستور لاتخاذ اي اجراء تراه مناسبا بالتعيين أو المنع من ذلك وبالتشجيع على الترشيح للمناصب العليا أو الحيلولة دون ذلك، مسخرة لها مؤسسات أخرى كمجلس الخبراء ومجلس تحديد مصلحة النظام للاضطلاع بهذه الوظيفة فوق العليا، وذلك دون التدخل في تدبير الشأن العام والتسيير اليومي لدواليب الحكم الذي هو من اختصاص رئيس الجمهورية وبقية السلطات.

ولا يختلف الحال تقديرا لهذا الشأن الاعلى في الصين الشعبية الشيوعية، أو في ألمانيا الليبرالية الديمقراطية، فلكل دولة مصالح عليا وطبيعة معينة تتطلع لحفظها، ولا بد من وجود جهاز مؤتمن قد لا يتدخل الا عند الضرورة القصوى وفي ظل وجود تهديد عميق او اختراق استثنائي يحمل خطرا محدقا. وأحيانا تكون هذه الدولة العميقة عبارة عن مجموعة أعراف قوية ومنظومة اخلاقية شديدة الفاعلية، مثلما هو الحال في بعض الدول الاسكندنافية، التي لا يملك اي طرف، أكان شخصية أو مؤسسة على المساس بأركانها ونواميسها. تتعرض تونس الديمقراطية الناشئة اليوم إلى خمسة أخطار استراتيجية، بمقدورها منفردة أو متضافرة تهديد أسسها وقيمها وأركانها ومصالحها، فتهديدات الشعبوية والفاشية والإرهابية والمافيوزية والاقليمية الدولية، جميعها تهديدات جدّية تحمل في اجندتها اختراقات عميقة لمؤسسات الحكم وطبيعة النظام ومصداقية السلطة وقدرة القوانين على النفاذ.

وما من شك في ان الاعتماد على المنظومة السياسية أو القانونية أو الأمنية أو حتى العسكرية بصيغها الحالية غير كافية لتأمين استمرارية الدولة وحسن آدائها، ومن هنا تبرز الحاجة ماسّة لما يمكن ان نسميه مجازا أو حقيقة ب”دولة عميقة” جديدة، مكلفة أساسا بحماية هذه الدولة المدنية الديمقراطية الناشئة، خصوصا في هذه المرحلة الهشّة، وكم من دولة من هذا النوع في التاريخ الحديث والمعاصر انهارت على ايدي أعداء داخليين وخارجيين، لأنها لم تتوفر على دولة عميقة أو جهاز استراتيجي فاعل بمقدوره التدخل في الوقت المناسب والضروري للحيلولة دون استهدافها وسقوطها.

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP