خالد شوكات يكتب عن: “تزييف معارك الوطن”
خالد شوكات
تذكرت ما كتبه مارشال هدجسون المفكر الأمريكي في كتابه “مغامرة الإسلام” الذي اثار جدلا في الغرب بداية الخمسينيات من القرن الماضي، حتى قال البعض ان الرجل قد دفع حياته ثمنا لجرأته الفكرية والتاريخية. ومما علق في الذهن من هذا الكتاب المهم، انه لو نزل كائن من الفضاء الى الارض خلال القرن السادس عشر لقال ان البشرية في طريقها بالكامل لاعتناق الديانة المحمدية.
نحن نحتاج بين الفينة والأخرى لهذه الكائنات الفضائية لتزور بلادنا وتساعدنا على القيام بالتقييمات الموضوعية لأوضاعنا الراهنة حتى نتمكن من ترتيب أولوياتنا بشكل صحيح والاستعداد للمفاجآت المستقبلية، ولو كانت هذه التقييمات صادمة وغير متوقعة، خصوصا لعامة الناس ممن لا يمكن مطالبتهم بالانتباه للأجندات الضيقة، تلك القادرة على تزييف وعيهم والتلاعب بعقولهم.
فلو زارنا مثلا هذا الكائن الفضائي في تونس هذه الأيام، وألقى نظرة على القضايا التي تشغل بال رفاقنا واخواننا في مراكز الحكم و القرار، لظن اننا امة مترفة غنية انتهت من معالجة جميع الملفات الكلاسيكية التي عادة ما تشغل اهل السلطان والصولجان في البلدان العالمثالثية، من قبيل شؤون التعليم والصحة والغذاء والفقر والبطالة والنقل وسائر هموم المعاش اليومية، ولم يعد أمامها لملئ الفراغ وشغل العقول والأيدي في الفضاء العام الا مناقشة قضايا شكلية وبروتوكولية ونخبوية، من قبيل تحديد التواريخ بدقة متناهية في المراسلات الرسمية، والقيمة القانونية لليمين الدستورية لاعضاء الحكومة، ومكانة الزعماء المؤسسين لدى الاحزاب السياسية ورفع صورهم ادعاء وبهتانا في الجلسات العمومية بعد المشاركة في اغتيالهم عندما كانوا احياء بيننا.
ودور الهواتف الذكية في نقل الأحداث للرأي العام وتعبئتهم في ثورات التنوير الظلامية، وما يستوجب من طبيعة ملائكية لمسؤولي الدولة السامين وأعضاء الحكومة المنعّمين، والعلاقة مع الكواكب الاخرى خلال الاجازات والعطل الرسمية وفترات الحجر الصحية، والصراع الممكن مع النجوم والكائنات الخفية، وتوحيد دور الفتوى الدستورية حصرا في المؤسسة الرئاسية، والتقارير الأمنية التي لا يعرف اسرارها الا الحاكم بأمر الله وعصبته الخارقة الاستثنائية التي تفدي سيادته بالروح والدم وتتلقى بدلا عنه الطعن والسم.
سيقف هذا الكائن العجيب الغريب القادم إلى التونسيين من الفضاء، على ان قواهم السياسية ما تزال تتصارع على فتات الغنيمة في دولة لا تعرف من اين ستتدبر أربعين بالمائة من ميزانيتها للعام الجاري، ولا كيف ستسدد أقساط مديونيتها المُستوجَب سدادها للخارج بعد اشهر قليلة، ولا كيف ستتعامل مع مليون عاطل عن العمل ثلاثة أرباعهم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عاما، ونصفهم من حملة الشهادات الجامعية، ولا كيف ستطفئ حرائق الاحتجاجات والإضرابات والنزاعات والصراعات المشتعلة في جسم الوطن دون رحمة او هوادة وفي جميع المناطق والقطاعات والمجالات، ولا كيف ستوقف الانهيارات في المرافق الخدمية وافلاس الشركات العمومية وهجرة الكفاءات والأدمغة الوطنية وانهيار العملية المحلّية، ولا حتى كيف ستوفر لقاح الكورونا كما فعلت بعض الدول الشقيقة القريبة ووضع حد لتداعيات هذه الجائحة العالمية.
ومع انحراف الذوق العام المريع وميول الجماهير الغريبة الى الشعبوية والفاشية والحقد والكراهية، وسيادة الضوضاء والصراخ والسباب والشتيمة، وتزييف معارك الوطن الحقيقية لتصبح أولويات النخبة تافهة وهامشية قياسا الى هموم الناس الحقيقية، يحتاج المتابع المتاع الى الاستنجاد بالقوى الخارقة الخفية والفضائية حتى يحافظ على جذوة الامل بداخله مشتعلة، وحتى لا يقرر الهجرة الى المرّيخ أو اي كوكب اخر يقترحه السيد الرئيس.
سألني البارحة صديق وزميل سابق في الحكومة “وينكْ يا صديقي”، فقلت “أكتب الروايات والقصائد”.
Comments