خالد شوكات يكتب عن: نظام التفاصيل…
خالد شوكات
يغرق المرء أحيانا في تفاصيل الحياة الصغيرة، يغرق تماما إلى درجة ينسى فيها نفسه وآماله وأحلامه، ولا يكون لديه متّسع ليرفع رأسه ويرى ما بمقدوره أن يبلغ بعد عشرة أعوام أو عشرين أو حتى خمسين، ويعجز عن التخطيط لشيء كبير يصلح أن يكون قضية كبرى تبرر الوجود، فالتفاصيل على أهميتها قادرة على ابتلاع الانسان وتحويله إلى لا شيء، مجرّد آلة لإطفاء حرائق صغيرة وتافهة، ولإشباع حاجيات مؤقتة لا تصلح أن تكون هدفا وغاية يبذّر لأجلها المرء سنيّ عمره.
يجري الموظّف والعامل من الصباح حتّى المساء، وكذلك تفعل زوجته المصون، نقل الأطفال الى مدارسهم، وتدبير طعامهم حين يعودون، وخلاص فواتير الماء والكهرباء والتلفون، واستكمال ملف اداري للحصول على قرض منزلي، وفض نزاع مع زميل في العمل لا عمل له سوى افراغ طاقته السلبية في محيطه واصطناع المشاكل من الحائط لغيره، وتوفير ثمن بوليصة تأمين السيّارة واستبدال زيتها الذي اقترب موعده، واصطحاب احد الأبناء إلى عيادة الأسنان او طبيب العيون، والتنقل بهم بين دروس التدارك التي اصبحت تشمل جميع المواد ولا تستثني شيئا، دون ان ينسى شراء الخبز والبيض والحليب، وعلى هذا النسق تلتهم التفاصيل بلا رحمة سنين العمر.
لهاثٌ حتى ينقطع النفس، ولا فراغ للتأمّل واخد النفس. هكذا يفعل الأفراد، ولكن هكذا تفعل بعض الدول ايضا، مثلما نفعل نحن تقريبا منذ عشر سنين، عندما قررنا اعتماد “نظام التفاصيل”، وإغراق الحكومات المتعاقبة ومؤسسات الحكم المتصارعة والاحزاب السياسية المتهافتة ومنظمات المجتمع المدني الحائرة ووسائل الاعلام المرتهنة، في ثقافة الغرق في ما هو يومي، حتى عادت جميع معاركنا يومية تفصيلية تافهة، وعاد حكّامنا تافهون يوميون يقتاتون على الشتائم والسباب ومجاراة الفايسبوك والانغماس في سيستام “التفاهة” و”الرداءة”.
نظام التفاصيل هو ذاك النظام الذي يحرم أصحابه من “الحلم” ومن كل نظر عميق وبعيد المدى، ومن كل مخطط استراتيجي، ومن كل فضيلة اخلاقية، ومن كل قدرة ابداعية.. نظام ينتهي بأهله الى الافلاس القيمي والمادي، والعجز عن الانتاج الحضاري.. نظام الدوامة والدورة الجهنمية الشريرة.
Comments