خالد شوكات يكتب ل “التونسيون” من المغرب: ” الإسلاميون المغاربة: عشر سنوات في الحكم”
د.خالد شوكات
كان آخر لقاء جمعني بالدكتور سعد الدين العثماني الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة المغربية الحالي، قبل عشر سنوات ونيف، وتحديدا في اكتوبر 2010، على هامش مؤتمر “الحوار العربي- الايراني” الذي نظمه في اسطمبول حينها الاستاذ محسن مرزوق مؤسس مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية.
واذكر انني قطعت والدكتور العثماني ذات مساء بعد الانتهاء من اشغال المؤتمر عدة كيلومترات مشيا على الأقدام في عاصمة الخلافة العثمانية، التي كان يعرفها جيّدًا، وتحدثنا في أمور كثيرة ولم يكن يخطر ببال كلينا ان حال العالم العربي سينقلب خلال ثلاثة اشهر فقط رأساً على عقب، وأن الإسلاميين تحديدا سيكونون ابرز الفاعلين في حراك كبير سيقلب أنظمة تسلّطية واستبدادية قوية مستقرّة لعقود وسيقود بعضهم، وفي مقدّمتهم الاسلاميون المغاربة الى سدة الحكم والمسؤولية.
عندما التقيته هذه المرة، وهو رئيس الحكومة المغربية، مساء الخميس 7 يناير/جانفي 2021، في إقامته الحكومية بالعاصمة الرباط، استقبلني بنفسه في الباب، وبدا لي ان الحكم لم يؤثر فيه من حيث الطبع الشخصي الودود، بل زادته المسؤولية تواضعا، واستذكرنا لقاء اسطمبول، فقال لي ان الاستشراف فن صعب، وانه فعلا لم يكن يتصور حينها حجم التغيير الذي سيطرأ ولا إمكانية التجربة التي سيخوضها مع اخوانه في حزب العدالة والتنمية، الحزب السياسي ذي المرجعية الاسلامية، والذي يمثل للباحثين “حالة دراسية” تستحق تسليط الضوء عليها اكاديميا وعناية المهتمين بحركات الاسلام السياسي، خصوصا تلك التي اختارت منهج الاصلاح والتجديد والاندماج الديمقراطي.
وفي هذا السياق التاريخي لتطور الحركة الاسلامية المغربية، يمكنني ان اعتبر نفسي بكلِّ تواضع، أحد الشهود على التطورات التي عاشها هذا الحزب الاسلامي الذي اختار منذ البداية التمايز عن منافسه في الساحة الاسلامية المغربية، جماعة العدل والاحسان لمؤسسها الشيخ عبد السلام ياسين الذي لم يتردد منذ البداية في اعلان البراء من النظام الملكي ودعوة المغاربة خاصة وعموم المسلمين عامة الى العودة الى حكم الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، حيث اجتهد قادة حركة الاصلاح والتجديد (ستتحول لاحقا الى الاصلاح والتوحيد)، المنحدرين من تنظيم الشبيبة الاسلامية الذي أسسه وتزعمه الشيخ عبد الكريم مطيع مطلع السبعينيات، في كسب رضا القصر الملكي لعقود طويلة، حتى اكتسبوا هذا الرضا على مراحل.
فبعد محاولات كثيرة فاشلة لنيل تأشيرة حزب سياسي، سمح لهم بالعمل كجمعية ثم قبل باندماجهم في حزب الدكتور عبد الكريم الخطيب احد قادة حركة التحرر الوطني المغربي واحد المقرّبين من الملك الحسن الثاني رحمه الله، وكان يسمى منذ الستينيات الحركة الشعبية الدستورية قبل ان يحوّله الاسلاميون بعد اندماجهم في هياكله الى حزب العدالة والتنمية، ويقول قادته ان الإسلاميين الأتراك بزعامة طيب رجب اردوغان قد استعاروا الاسم منهم سنة 2002 عندما انشقوا عن حزب زعيمهم التاريخ نجم الدين أربكان.
قال الدكتور العثماني الذي يرأس الحكومة المغربية ذات الطبيعة الائتلافية منذ مارس 2017، ان أمله هو استكمال بناء حزب ديمقراطي مؤسساتي ذو مرجعية إسلامية محصّن ما امكن من جائحة الفساد التي تسمم المشهد الحزبي والحياة السياسية، وفيه تداول على القيادة والزعامة، ويعمل بانسجام وتكامل مع الإرادة الملكية.
لم يخف الزعيم الاسلامي اعجابه بشخصية الملك محمد السادس وقدرته على استشراف الساحة الاقليمية والدولية، فضلا عن مواقفه ازاء القضايا العربية وقراراته الشجاعة خدمة لمصالح بلده العليا وعلى رأسها القضية الصحراوية. وفي هذا الإطار، فهمت من الدكتور العثماني أن الحرص على هذه العلاقة الطيّبة مع الملك هي مفتاح تفسير قراره التوقيع على الاتفاقية الثلاثية المغربية الامريكية الإسرائيلية، الموسومة باتفاقية “التطبيع”.
كان موقفا صعبا ولحظة محيرة – كما اخبرني الزعيم الاسلامي- على الصعيدين الشخصي والحزبي، ولم يكن سهلا بالمرة عليه الإقدام على هذه الخطوة التي لا تتفق مع ماضيه وقناعاته والتزامات حزبه العقائدية والسياسية، اذ لطالما أكد الاسلاميون المغاربة طويلا على وقوفهم ضد التطبيع، فكيف ستقبل منهم هذه الخطوة المناقضة لمرجعيتهم. العملية كانت ترجيحية عند الدكتور العثماني كما قال لي.
وقد ارتسمت امام عينيه إمكانية نسف كل ما تحقق للعدالة والتنمية في صلته بالملك، وما اذا كان مستعدا للتضحية بكل المكتسبات التي تحققت للاسلاميين خلال السنوات العشر الاخيرة من قيادتهم للحكومة ومشاركتهم في الحكم.
هذا الى جانب ما رَآه من المصلحة الكبرى التي ستتحقق للوطن باعتراف الولايات المتحدة الامريكية بمغربية الصحراء، وهو امر ما كان ليحصل لو لا رغبة ترامب المحمومة في الحصول على اعتراف عربي إضافي بإسرائيل فيما تبقى له من ايام في البيت الابيض، وهو ما كان على المغرب ان يستثمره مهما كانت التكلفة، فقضية الصحراء هي قضية مقدسة لا مجال للتنازل فيها الا جزئيا.
وسيساهم الاعتراف الامريكي بمغربية الصحراء أمورا جوهرية كثيرة سترجح كفة المغرب على خصومه واعدائه كما فهمت من الدكتور العثماني. السنوات العشر الاخيرة التي قضاها الاسلاميون المغاربة في الحكم، جعلهم كما فهمت من زعيمهم اكثر نضجا وواقعية وقابلية لتقاسم المصالح والتوافق حول المختلفات، كما ثبّت لديهم القناعة باهمية هذه العلاقة الاستراتيجية مع القصر الملكي، فالديمقراطية المغربية المحروسة من قبل الملك جعلتهم شركاء في جميع الإنجازات الكبرى – وهي ليست قليلة- التي تحققت للمغرب خلال العقد الاخير، بل ان المغرب كان البلد الافضل نموا وإنجازا قياسا بجميع الدول المغاربية والعربية خلال هذه العشرية.
والحكم في النهاية على هذه التوجهات سيكون للشعب المغربي من خلال الانتخابات المزمع تنظيمها نهاية العام، ان سلبا او ايجابا. لقد ألقى الدكتور العثماني حجرا في بحيرة الإسلاميين خاصة وعموم العرب والمسلمين، اذ ما كان احد يتصور ان تغلب الاولويات الوطنية الى هذا الحد عندهم ثوابت الامة، لكنهم فعلوا على اي حال وستظهر نتيجة التجربة من خلال نقاش تفجّر ولا اظنه يهدأ سريعا. لقد سار الاسلاميون بعد هذا الصنيع كمن سبقهم وسيحكم المغاربة لهم او عليهم قريبا من خلال صناديق الاقتراع.
Comments