خالد شوكات يكتب ل “التونسيون” من المغرب: ” لماذا تقدّم المغرب وتأخرنا؟ “
د.خالد شوكات
كانت مدينة الناظور المغربية، المجاورة لمدينة مليلية المحتلة، عندما زرتها لأول مرة سنة 1991، نموذجا للمناطق المهمّشة في ما كان يعرف في الادبيات السياسية المغربية ب”المغرب غير النافع” في مقابل “المغرب النافع”، أو “مغرب السيبة” قياسا الى “مغرب المخزن”.
الناظور .. تتغير وتتجمل
كانت المرافق البلدية غائبة، والشوارع والأزقة مليئة بالحفر وأغلبها دون إسلفت وبلا إنارة، وعلى الرغم من وجود المدينة على البحر فقد كانت بلا شاطئ يستجم فيه اهل المدينة، وكان وسط المدينة يعج بالفوضى وأكياس القمامة، كما كان الميسورون من اهل المدينة يلجأون إلى مليلية لاحتساء فنجان قهوة وقضاء وقت ممتع مع عائلاتهم. اليوم تحوّلت الناظور إلى عنوان حقيقي لجودة الحياة، فقد جاءت الأوامر والبرامج التي أطلقها الملك محمد السادس لتغيّر وجه هذه المدينة التي تقع على اطراف المملكة غير بعيدة عن الحدود مع الجارة الشقيقة الجزائر، بالكامل، وكأنها مدينة جديدة تكاد تبلغ مستوى المدن في جارة الشمال اسبانيا، مالقة ومربيا وبلنسية.
أحدثت وكالة حكومية لتنظيف بحيرة “مارشيكا” التي تقع الناظور على ساحلها، وأقيم كورنيش حديث ممتد على كيلومترات وفقا لاحدث المعايير البيئية الدولية، مجهز بملاعب القرب وفضاءات الطفولة والشباب والمساحات الخضراء وسلسلة من المقاهي والمطاعم الفاخرة.
شوارع المدينة وأزقتها جرى تعبيدها وإنارتها بأجمل الأعمدة وأنواع الإضاءة الزاهية، ومرافق النظافة والنقل العمومي جرى عصرنتها، وفندق الريف المملوك للدولة جرى تحويله الى فندق اعمال من اربع نجوم تسيره شركة الفنادق العالمية “مركير”، وعلى ضفاف البحيرة غير بعيد من المارينا الجديدة أقيم فندق من خمس نجوم هو المأمونية، والى جواره شقق فندقية من طراز رفيع، تواجه جيب مليلية الإسباني المحتل وتستفزه. في محيط الجيب الإسباني المحتل الاخر “سبتة” فعلت أوامر محمد السادس الملكية الامر نفسه، طريقة مبتكرة في دحر الاحتلال.
محيط سبتة .. مدن أوروبية – مغربية
محيط سبتة الذي يحتوي مدنا كبرى مثل تطوان وطنجة ومدنا اقل حجما كالفنيدق ومرتيل وغيرها اصبحت اقرب الى المدن الأوربية منها الى المدن العربية والافريقية. لقد جرى تثمين جمال المنطقة الواقعة على مضيق جبل طارق قبالة الساحل الجنوبي لأوربا، لتكون مثارا للإعجاب حقا. فخلال عشرين عاما من حكمه أولى العاهل المغربي عناية فائقة بالشمال الذي عانى تهميش السياسات المتبعة في عهده والده الحسن الثاني رحمه الله. مدن عصرية ذات مداخل أنيقة تطغى المساحات الخضراء والحدائق الغناء على فضاءاتها العامة.
ثورة حضارية هادئة تطال جميع مناطق المملكة العلوية الشريفية في الظاهر والباطن، والاجمل ما يلاحظه الزائر من تغير إيجابي في سلوك المواطنين ومن مواكبة لهذه التطورات البناءة، فالمغاربة أصبحوا في عمومهم يحترمون قواعد النظام والنظافة، ولعل هذا هو الأهم في هذا المسار التقدمي الثابت طيلة عقدين من الزمان. يتوفر المغرب اليوم على أفضل موانئ القارة الافريقية، وأجمل المطارات ومحطات القطار، وشبكة عصرية من الطرق السيّارة والسكك الحديدية المكهربة في غالبيتها، وقد ساهمت برامج الإسكان الحكومية في القضاء على جل مدن الصفيح والضواحي العشوائية، وتبدو رياح الحضارة عاصفة في كل مدنها.
وجدة .. التي لم أعد أعرفها
مدينة وجدة التي تخرجت من جامعتها قبل ربع قرن، تحدت غلق الحدود مع الجزائر، وواصلت تقدمها الى درجة انني لم أعد اعرفها، وفاس ومكناس وومراكش وأغادير والدار البيضاء، وحتى اسفي والصورة وبني ملال والجديدة وتازة ومدن الصحراء العيون والداخلة، فضلا عن الحاضرة الملكية الرباط، جميعها اصبحت مثيرة للإعجاب والدهشة.
الملك محمد السادس لا يتوفر ربما على مواهب ابيه في الخطابة والدهاء السياسي ومواجهة اعاصير المنطقة التي كادت تغتاله اكثر من مرة، لكنّهُ فيما اثبته عمليا – والسياسة بنتائجها كما يقال- طيلة عشرين عاما من حكمه، دلّل على ما يكفي من الحكمة والارادة لقيادة بلده محدود الموارد الطبيعية، لبناء تجربة تنموية رائدة من عناوينها الرئيسية الحرص على الاستقرار السياسي والحوار الوطني والتوافق الحكومي والتوجه الافريقي والمزج بين الليبرالية والاجتماعية وبين الصرامة والمرونة.
الديمقراطية في المغرب محروسة من القصر، والانتقال الديمقراطي مضبوط بمصالح الدولة العليا، وثمة خطوط حمراء مرسومة في السياسة توازيها خطوط للطموح الاقتصادي وجلب الاستثمار الخارجي، بالاضافة الى سياسة خارجية تمزج بين ثوابت السيادة الوطنية وبرغماتية يقتضيها المشهد الاقليمي والدولي المتحرك.
ذكاء ملك .. لم شمل الجميع
لقد نجح محمد السادس في تعبئة جل القوى السياسية في بلاده للانخراط في مشروعه، فقد اقنع الإسلاميين واليساريين والليبراليين والعروبيين والأمازيغ بالمساهمة فيه، متجاوزا إعصار الربيع العربي بأخف الأضرار، وفي وقت رفع فيها المحتجون شعار “الملكية الدستورية البرلمانية” تمكن من إقناع اغلب التيارات السياسية الفاعلة بأهمية التدرج الاصلاحي من خلال ملكية دستورية ذات خصوصية تجمع بين مقتضيات الاصالة والمعاصرة، والثبات والتحوّل.
لا شك أن للنظام المغربي نقاط ضعف ومؤاخذات لدى معارضيه الذين ما يزالون يطمحون الى تحقيق مزيد من المطالب سواء في مجال الحرّيات والديمقراطية أو في مجال التنافسية والعدالة الاجتماعية، لكن الثابت في التقييم الكلي أن حصيلة الملك محمد السادس كانت الى حد الساعة جدّ إيجابية، وان ما تحقق للمغاربة خلال العقدين الماضيين كان فوق تصور غالبية المتابعين والمهتمين وأكثرهم تفاؤلا، وبمقدوري القول ان دورة الحضارة عبر مضيق جبل طارق نحو الجنوب أضحت من خلال هذه التجربة ممكنة، وقريبا ستكون سبتة ومليلة كما أقدّر وأرى المستقبل عبئا على اسبانيا، وسيتحول الثقل قريبا الى طنجة والناظور عبر ميناءيهما العميقين الدوليين.
Comments