الجديد

دستور الرئيس : بلا أباء .. بلا مستقبل !

المهدي عبد الجواد

بعد إن نشر الرئيس قيس سعيد مشروع الدستور، أنكر أهم من شارك في صياغته مسؤوليتهم على كتابته، فالسيد أمين محفوظ قال “ليس ابني” والسيد العميد الصادق بلعيد حذر من خطورته، ونشر مسودة الدستور التي قدمها للرئيس.

وهو ما يجعلنا نتأكد من كون المشروع المنشور بالرائد الرسمي، هو من تحرير قيس سعيد، وكتبه على مقاسه تماما، وضمنه أفكاره الشخصية، في علاقة بقراءة ذاتية لتاريخ تونس وخاصة في علاقة برؤيته لمستقبل تونس وشكل الدولة وطبيعتها.

ولا بُدّ من التذكير بكون “النقاش العام” حول الدستور أمر ضروري ومحمود، وهو يؤكد “الاستثناء التونسي” حيث يتجادل التونسيون حول مصيرهم ودولتهم بالحجج والجدال والأفكار، في حين يتجادل غيرهم من العرب بالسلاح والعنف.

لكننا كُنّا نتمنى ان هذا النقاش انطلق منذ مدة طويلة، وأنه كان من الأصوب أن “المشروع” كان نتيجة حوار وطني تشاركي، يُجسّد فعلا مفهوم الدستور باعتباره “تعاقدا اجتماعيا”.

 

دستور الرئيس .. استفتاء على الرئيس

 

كما لا يجب أن ننسى مسألتين مهمتين، الأولى تتعلّق بالسياق العام الذي وُلد فيه الدستور وهو سياق سمته استقطاب حاد بين قيس سعيد وخصومه، وموضوعه دستورية الاجراءات ومدى احترام الرئيس أو خروجه عليها.

لذلك فإن استقبال مشروع الدستور كان خاضعا بدوره لهذا الاستقطاب، فأنصار الرئيس هلّلوا واستبشروا أما خصومه من النهضة وجبهة الخلاص وعبير موسي فقد رفضوه، عملا بمقولة الشيخ بن مراد “دُفعة على الحساب قبل قراءة الكتاب”.

أما المسألة الثالثة، فهي كون مشروع الدستور الذي تم نشره ليس غير وسيلة يتمّ من خلالها الذهاب للاستفتاء حول “صاحب النص” وليس حول النص ذاته.

فيوم 25 جويلية، سيكون السؤال الجوهري الحاضر في أذهان التونسيين، هل انت مع قيس سعيد ومشروعه؟ ام انت ضد ذلك؟

 

مخاوف مشروعة

 

أولى المخاوف التي يُثيرها نص المشروع، غياب التنصيص على مدنيّة الدولة، مقابل التنصيص على عمل الدولة على تحقيق مقاصد الاسلام (ومنها حفظ الدين والعرض)، وهو ما فتح باب التأويل الديني على مصرعيه، ويُصبح الأمر مُثيرا للهواجس في علاقة بالحريات الأساسية الفردية والجماعية بذكر مسألة “الآداب العامة”.

كما أنه ليس هناك تأكيد على الطابع الديمقراطي المدني للدولة، فرغم انه تمت المحافظة على أغلب فصول الحقوق والحريات التي جاءت في دستور 2014، فإنه لم تتم الإحالة على كونية حقوق الإنسان ولا على المواثيق الدولية ذات الصلة، ويغيب في الدستور الفصل بين السلط وضمانات استقلالية القضاء.

و من خلال الفصل 58 المتعلّق بالترشح لعضوية مجلس نواب الشعب تظهر مخاوف أخرى تؤكد مضي الرئيس في ترسيخ دعائم “البناء القاعدي” ، إذ يقول الفصل أن الترشح بمجلس نواب الشعب “حق لكل ناخب ولد لاب تونسي او لام تونسية وبلغ من العمر 23 سنة كاملة يوم تقديم ترشحه” دون التنصيص على طبيعة الانتخاب العام والمباشر مثل الرئيس، وهو ما يعني أنه من المُمكن أن يرد في القانون الانتخابي، الذي يحتكر اصداره الرئيس قيس سعيد بموجب المرسوم 117 ما يجعل الاقتراع غير مباشر أو بطريقة مزدوجة، ومنها يتسلل إلينا مشروع الرئيس القاعدي، الذي يهدد بناء الدولة ومؤسساتها ومقومات الحياة الديمقراطية.

ولم يكتف مشروع الرئيس بذلك، بل دستر سحب الوكالة من النواب بل جعل المجلس ضعيفا، ومُحاصرا بمجلس الجهات والأقاليم، وبلا صلاحيات، ولا حق له في مساءلة الرئيس.

 

نظام رئاسوي مطلق

 

وبذلك نحن نتجه نحو نظام السياسي رئاسوي صرف يتحكم الرئيس في السلطة التنفيذية، ولا يمكن للبرمان سحب الثقة من الحكومة إلا في حال مخالفتها الدستور!!؟ اي في حال “الخيانة”، ولا يتمّ ذلك إلا بأغلبية ثلثي الغرفتين البرلمانيتين.

أمّا الرئيس، فلا يمكن عزله ولو خرق الدستور خرقا جسيما. كما لا يتحمّل الرئيس أية مسؤولية سياسية، مقابل مسؤولية الحكومة والمجلسين. بل إن للرئيس حق الاستفتاء المباشر في علاقة بمشاريع القوانين وحتى بتنقيح الدستور. يعني أن الرئيس يتجاوز صلاحيات الجميع ويستغني عنهم.

كما تغيب في مشروع الدستور منظومة توازن السلط، فليس هناك سلطة مضادّة للرئيس، فهو كائن متعالي، يسأل ولا يُسأل، يعزلُ ولا يُعزلُ، ليس مسؤولا على أفعاله. والسلطة صارت وظائف ضعيفة وليست لها شرعية انتخابات ، مقابل سلطة شرعية قوية المشروعية لدى الرئيس.

و رغم أن الحكومة هي من تمارس فعليا السلطة التنفيذية عبر الإدارة والاجهزة الصلبة الامنية، فإن دورها هامشي ويحق للرئيس عزلها، بل انها مفصولة تماما على مجلس نواب الشعب ولا تُمثّل باي شكل إرادة الشعب..

و القضاء وظيفة وليس سلطة كما ان ضمانات استقلال السلطة القضائية غائبة، وغياب الضمانة المؤسساتية التي هي المجلس الأعلى للقضاء.

ويبسط الرئيس سلطانه على القضاء والقضاة، وافقد المحكمة الدستورية من مضمونها الاعتباري، وهو ما يهدد في العمق مقومات دولة الحقوق والقانون. ونفس الأمر يتكرّر بالنسبة للهيئات « المستقلة » فقد الغاها مشروع الدستور ولم يحتفظ بغير هيئة الانتخابات مع احداث مجلس أعلى للتربية، قد يتحول إلى “مجلس للاصدقاء” إذ لا نعرف له مهاما ولا طريقة تمويل ولا آلية اختيار لاعضائه.  كلّ هذا يعزّز الطابع الرئاسوي للنظام.

ويختم الفصل 90 كل هذه المخاوف، إذ أن صياغته العامة قد يقود إلى حكم مدى الحياة في ظل غياب مؤسسات يُمكنها تأويل نصوص هذا الدستور.

 

ما العمل؟

 

تدخل تونس مرحلة تأسيسية جديدة، وسط لا مبالاة شعبية واسعة، إذ تطحن ظروف الحياة العائلات التونسية، غلاء ونُدرة للمواد الأساسية وخوف من المجهول. وتُحاول بعض النّخب المشاركة في حملة الاستفتاء وسط أجواء مشحونة، ميزتها محاولة أنصار الرئيس غلق الفضاء العام ومنع خصوم الرئيس من ابداء رأيهم، مثلما حصل لحركة آفاق في ولاية سيدي بوزيد يوم الأحد.

ولكن ذلك لا يمنعنا من التأكيد على أن تونس ستمضي لا محالة لمرحلة تأسيسية ثالثة، فدستور 2014 صار في حكم المعدوم ولا فرصة ولا إمكانية للعودة اليه، ودستور قيس سعيد لن يعيش بعده، إذ ليس فيه اي مقوم للاستمرار، فهو دستور شخصي يُعبّر على رغبات صاحبه.

 

موقع " التونسيون " .. العالم من تونس [كل المقالات]

Comments

Be the first to comment on this article

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    ^ TOP