دوز بعد عشر سنوات من الثورة .. غضبٌ وخيباتٌ (ريبورتاج )
المهدي عبد الجواد
عُدتُ من دوز بعد زيارة عائلية خاطفة. كانت زيارة قصيرة لكنها كانت كافية لأُدرك حجم التحوّلات العميقة التي خلّفتها عشر سنوات من “الثورة” في مدينة، شاركت في مسارات الاحتجاجات الاجتماعية منذ عقود.
فالمرازيق سكّان دوز ومجاوريهم من قبائل العذارى وغريب وغيرهم من العروش، من بدو “الرمال” عُرفوا بأيامهم المجيدة في النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وتمرّدهم الدائم على كل صنوف العسف والظلم، وقد انطلقت انتفاضة الخبز الشهيرة أواسط الثمانينات من مدينة دوز.
ثقافة الاحتجاج .. والتمرد على الظلم
يستبطنُ العربُ تمرّدا طبيعيا على كل أشكال الظّلم، ويستأنسون الحُرية والانطلاق، ولكنهم في دوز أوفياء للدولة ولمنطق القانون، لذلك انخرط أبناء الجهة في الإقبال على العلم والتعلّم منذ ما قبل الاستقلال، الأمر الذي سمح ببروز نُخب على درجة عالية من الثقافة والعلم في كل المجالات، تحوّلت معه دوز إلى منارة علمية وثقافية وفنية، مناراتها مهرجانات لا تكاد تتوقف طيلة أيام السنة، من مهرجان الصحراء إلى المسرح العربي إلى مهرجان الفنون الشعبية إلى مهرجان الأغنية الشعبية فمهرجان سباقات المهاري/الهجن الدولي الى غيرها من الفنون.
ويتميّز النشاط الاقتصادي في المنطقة، بارتكازه رئيسيا على الفلاحة، فالجهة تحتل المرتبة الأولى في إنتاج دقلة النور علاوة على منتجات فلاحية قائمة على الآبار الجيوحرارية والباكورات والأشجار المثمرة، كما تُعتبرُ السياحة والصناعات التقليدية مجال النشاط الاقتصادي الثاني، وتنتشر في الجهة عشرات الوحدات الفندقية والمنشآت السياحية والمخيمات التي تُغطّي صحراء المنطقة، ووكالات أسفار ونقل سياحي تُشغّل الآلاف.
المُشتغلون في السياحة…. غضبٌ من الدولة ومن الثورة
كانت هذه المقدمة ضرورية لمعرفة السياقات التي قمت فيها بنقل شهادات حيّة لأبناء الجهة، ممن التقيتهم أثناء زيارة عائلية سريعة. التقيت اغلبهم عرضا، وحادثوني بنبرات لم تخْلُ من غضبٍ. فقد تصادفت زيارتي مع انطلاق بعض الاحتجاجات التي قام بها بعض “عشرات” من الشباب وسط المدينة، احتجاجا على إيقاف رفاقهم ممن شارك في أحداث العُنف التي شهدتها المنطقة في بات يُعرفُ “بمعركة العين السخونة” مع جيران دوز في بني خداش.
فوسط لامبالاة تامة انصرف الجميع الى شؤونهم، وجلس اغلبُهم الى مقاهيهم “يمضغون الكسل” ويستمتعون بدفء شمس الشتاء اللذيذة. يعتقد الكثيرون ان ما حصل في “العين السخونة” لم يكن بريئا ولا لائقا. ويتأسفون على تطور الأحداث وخاصة على سقوط ضحايا. ولكنهم يعتقدون ان إيقاف “الشبان” ليس صائبا. يقول عم الطيب البشراوي صاحب نُزل في الجهة “كان يُمكن تأجيل الإيقافات الى ما بعد رأس السنة والعُطلة.
تعد العطلة فرصة لاستقبال السياح خاصة التونسيين، وهي فرصة تتحرك فيها الدورة الاقتصادية. إيقاف الشباب أدى إلى نشوب تحركات قد تؤثر سلبا على الحركية وعلى الأمن في دوز” ويضيف عمر السنهوري دليل سياحي صحراوي وصاحب وكالة أسفار معلّقا “الدولة لم يعد لها عقْل يُفكّر ويُخطّط ويُراعي الظروف وحساسية الإجراءات. لو استشارت السلطات أهالي المنطقة لأجلت قرار الإيقاف. بل إنها لو استمعت إلى نداءاتنا لتجنبنا وقوع الكارثة في العين السخونة”. وعلّق رضا ساخرا “بعد ما طاحت الأرواح…عملولنا حظر. على اللي ماشاركوش أصل…وعلى النساء والصغار والكبار. توّه هذي دولة عندها عقل؟”.
أغلب تدخلات الناشطين في القطاع السياحي تبدو غاضبة. وتحوّل الغضبُ ليطال كل ما أنتجته عشر سنوات من الثورة، ثورة الفوضى. ويبدو لنا الموقف السلبي من “الثورة” مفهوما. فالسياحة وخاصة الصحراوية تتطلّبُ درجة عالية من الأمن والأمان، وتدهورهما يقود مباشرة الى الشلل التام في نشاط مئات المتداخلين وآلاف العائلات. ناهيك على مشاكل اخرى مُزمنة تُعاني منها. لعل أهمها توسيع دائرة المناطق الصحراوية العسكرية مما جعل “الرحلات السياحية الصحراوية” في مساحة صغيرة ظلت هي نفسها طيلة السنوات العشر الأخيرة، مما أصاب الزوار بالملل، وحرم الجميع من الاستفادة من جمال الصحراء وتثمين ثرواتها الخلابة.
ثاني هذه المشاكل، اضطرار المئات من المشتغلين في السياحة الصحراوية الى الحصول على “بطاقات الصحراء” من والي تطاوين، لزيارة أماكن لا تبعد على دوز اكثر من مئة كلم وتابعة ملكيتها لأبناء الجهة ولكنها تتبع تطاوين إداريا، مع تخلّف الخدمات الإدارية إذ يجب الحضور المادي في الولاية، فلا “مايل” يشتغل ولا فاكس. كما ان التمديد للمندوب الجهوي للسياحة الذي بلغ سن التقاعد لثلاث سنوات أخرى، وهو الذي لم يعد يهتم بخدمة السياحة في الجهة، وقد بلغ أقصى درجات الوظيفة ومُنتهاها يُمثّل عائقا آخر أمام تطوير هذا القطاع الواعد. ورغم كل هذه الصعوبات فإن ابناء الجهة متمسكون بالاستمرار في الاستثمار في السياحة وفي تطوير الخدمات وتجويدها.
السياسة… الغضبُ على النّخب
تشتهرُ دوز بصفة خاصة، وأغلب مناطق الجنوب بصفة عامة، بارتفاع درجات “التّسيُّس” فيها. فالجميع يتحدث في السياسة، صغارا وكبارا، نساء ورجالا. هذا الشغفُ بالسياسة خلق في دوز فضاءات للحوار والنقاشات اليومية الحادة أحيانا، وسط أجواء الدعابة والسخرية التي تُميّز حياة البدو عامة. دُكّان حبيب عبد النور “التارزي” أحد أهم الفضاءات التي يؤمّها الجميع منذ ساعات الصباح الباكر. يتحلّق الكثيرون في الكراسي أمام “الحانوت”، من مُختلف المشارب السياسية، ويشتدّ الجدلُ والضحكُ والسخرية. لكن الجميع بدا متفقا على ان الوضع “هزيلٌ” وان ما يحصُل في تونس “فضيحة” وان ما يقع في مجلس نواب الشعب عارٌ على التونسيين ولا يُشرّفهم.
بعض الأصوات تتحسّر على زمن بن علي وتتمنى “رجلا يُعيدُ الجميع الى الطريق المستقيم” قال فتحي “هذا شعب ما يجِي كان بالكبس”. بعضهم الآخر يُساندُ عبير موسي، من “رِيحة الغالي” ضحك احدهم ملمّحا إلى بن علي رحمه الله، في استفزاز لأحد النهضاويين الذي سلّم لتوه والتحق بالجلسة. قيس سعيد لم يسلم من النقد هو الآخر “كانه على العربية عاد نحن أُماليها….ياخي انتخبناه باش يكلمنا بالعربي الغالط؟ يا حسرة على بورقيبة وبن علي”.
يتفق الجميع على ان دوز تفتقدُ صوتا عاليا في المركز. فهي لاول مرّة غير ممثلة في مجلس نواب الشعب. ويعتقدون ان ذلك سبب آخر من أسباب التهميش الذي تعرفه الجهة. كما يتفق الكثيرون على ان الثورة لم تجلب للجهة غير تعطّل السياحة وانهيار سوق التمور. كما ساهمت في بروز فئة من “الثوريين” الشعبويين الذين تستغل حماستهم وبراءتهم الثورية بعض الأحزاب في توتير الأجواء وإثارة الفتن وهو الأمر الذي ينعكس سلبا على صورة دوز وعلى حقيقة أهاليها ويؤثّر على نشاطاتها الاقتصادية الرئيسية. لم تجلب لنا “الاحتجاجات شيئا. فلا احد يستمعُ إلينا ولا احد يهتم بنا. الدولة ناسيتنا لأننا بعيدون جدا على العاصمة” يشعرُ بعض الشباب المحتجّ انه مقصيٌّ و”محقور”. فحتى الأحزاب لا تأتي أبدا ألينا، بعضها فقط يزورنا عند الانتخابات أو لإثارة الفتنة. أما المجتمع المدني “لاهي في وِتْلَتْ الحمامات وسوسة وتونس. لماذا لا ينضم نشطاء المجتمع المدني تظاهرات في الجنوب”؟
كانت زيارة خاطفة…خطفتُ فيها بعض ملاحظات. عسى أن أعود قريبا فيكون الوضعُ أفضل والشهادات أعمق.
Comments