ديمقراطية في الزمن الاتصالي
بقلم: خالد شوكات
بات الانسان يصرف على الاتصال والاتصالات أكثر مما يصرف على الغذاء والدواء، وتحولت الانترنت بالنسبة للبشر إلى شيء يقترب من الماء والهواء، لا تستقيم الحياة إِلَّا به، حتّى أن هناك مسارًا أمميا في اتجاه اعتماد “الحقّ في الانترنت” حقّا من حقوق الانسان، وربّما يجري تعديل الشرعة العالمية لحقوق الانسان حتى تضم هذا الحق الجديد الذي لم يكن باستطاعة المشرّع الأممي استشرافه قبل عقود من الزمان، مهما كانت عبقريته حينها.
اليوم صارت خدمة الانترنت، جودتها وانسيابها وتدفقها وسرعتها، من أهم المعايير، ان لم تكن المعيار الأهم، في الحكم على تقدّم البلدان أو تأخرها. إلى حد القول بأن أحد مؤشرات تفوّق الصين على الولايات المتحدة في الحرب العالمية غير التقليدية الدائرة بينهما، هو سبق الصين إلى الجيل الخامس في خدمة الانترنت، وربّما السادس قريبا، بينما ما يزال بقية العالم، بما في ذلك بعض الدول المحسوبة على العالم المتقدم، تتراوح بين الجيلين الثالث والرابع.
أشخاص قادمون من الزمن السابق على الانترنت، اضطروا في الانتخابات الاخيرة الى التبشير بالواي فاي، اي تغطية الانترنت المجانية، في البلديات التي سيفوز بها حزبه، وهي نقطة عادت طبيعية في الاجندات الانتخابية، فجعل هذه الخدمات أكثر تطورا واتساعا في انتشارها عاد محددا من محدّدات التقييم والحكم على آداء اي سلطة أو حكومة.
هذا الزمن الذي نحياه، يمكن تسميته بسهولة “الزمن الاتصالي”، أي زمن الاتصال، له وجه آخر غير الذي تقدّم، اذ هو يكاد يحوّل كل شيء الى ظاهرة اتصالية. واذا عدنا بالذاكرة قليلا الى الوراء نجد أن ثورة 17 ديسمبر -14جانفي كانت ثورة اتصالية بامتياز، خسر فيها النظام السابق المعركة اتصاليا، قبل انهزامه في المعركة السياسية. وهو امر يسري ايضا على حكم الترويكا الذي سقط على ايدي المدفعية الاتصالية المضادة.
حكومة الحبيب الصيد سقطت لأسباب اتصالية في المقام الأول. حكومة الشاهد حاولت ان تنجح اتصاليا قبل ان تنجح عمليا، ولكن لحرصها على النجاح الاتصالي هذا، أسقطها مسؤولها الاتصالي الاول في شر أعمالها، واخيرا ها هي حكومة الفخفاخ تترنحّ اتصاليا رغم مضي أسابيع قليلة فقط على تشكّلها، فها هم وزراؤها يتساقطون اتصاليا الواحد تلو الاخر.
المفارقة ان الجميع يتحدّث عن سوء الأداء الاتصالي والهفوات الاتصالية والضعف الاتصالي دون ان يتحدّث احد عن نموذج وطني واحد في النجاح الاتصالي. وحتى الذي ينجح مرحليا يسقط ويتهاوى بسرعة لاحقا. الانتخابات الرئاسية الاخيرة، والتي قبلها ايضا، كانت نموذجا لانتصار محدد “الاتصال” على غيره من المحدّدات.
الشعب لم يصوّت على البرامج أو الافكار او حتى الشعارات. صوّت لظواهر اتصالية، وفيّ النهاية أوصل أداتين اتصاليتين الى النهائي، نسمة والفايسبوك، وانتصر الفايسبوك، ولكن هل يستطيع الفايسبوك ادارة الدول والنجاح في الحكم. سنة 2005 نجح الفايسبوك في إيصال رئيس للحكم في أوكرانيا، لكن الشعب الذي انتخبه هو نفسه الشعب الذي ثار مرة أخرى وطرده لاحقا. الانتخابات التشريعية لم تشذ كذلك عن هذه السيرة. بعض الذين ربحوا الانتخابات وعادوا نوّابا، وبعضهم له كتل برلمانية وازنة، لم يكونوا سوى ظواهر “اتصالية”..
وعندما نقول ظواهر “اتصالية” فان ذلك يعني غالباً حمولة سلبية.. امتهان السباب والشتيمة والشعبوية وسائر انواع الإثارة، هي في علم الاتصال أدوات ذات تأثير اتصالي قوي، والأمثلة على ذلك كثيرة..البعد الاتصالي لم يعد يحبّ الهدوء والحكمة والرصانة والاعتدال والوسطية كثيرا..هذه أشياءَ تجلب الرتابة، والاتصال يحبّ الاستفزاز وجلب الاضواء والسعي الى الشهرة السريعة. الزمن الاتصالي يهدد حتى الديمقراطيات العريقة والمستقرّة.
انتخاب الأمريكيين لترامب على حساب أبناء المؤسسات ورجال الدولة، كان بالدرجة الاولى لان ترامب منذ ظهوره مثّل ظاهرة اتصالية. رموز اليمين المتطرّف والقادة الشعبويون في اوربا اليوم هم شخصيات اتصالية بالدرجة الاولى. لم يعد القادة الناجحون هم الذين يحملون مشاريع تقدّم او تحرر لشعوبهم، لم يعودوا الحكماء والخطباء..
بل “الاتصاليون” الذين يحسنون تسويق انفسهم عبر توتير وفايسبوك وانستغرام وغيرها من الوسائط..لأن الشعوب نفسها لم تعد الشعوب التائقة للتقدم والتحرر، بل العجينة الطيعة التي تشكلها الوسائط الاتصالية كما تشاء. النخب نفسها لم تعد تقرأ الكتب في غالبيتها، كما كان عليه الحال قبل عقود..
أصبحت في الغالب نخبا تافهة تعيش على تدوين نصوص ركيكة، وبعضها يفتخر بأنه لم يقرأ كتابا..حتّى ان بعض المفكّرين لم يتردد في وصف هذا الزمن الاتصالي ب”نظام التفاهة”.. البعض الاخر سماه ب”زمن الرداءة”.
اليوم لا يحاسب التونسيون حكامهم، رؤساء ووزراء ومسؤولين، على ادائهم السياسي والتنموي كما يجب ان يكون، إنما بناء على ادائهم الاتصالي. افضل الرؤساء يمكن ان يسقط لانه ضعيف اتصاليا، ولعل الشعب يعيد انتخاب رئيس سيّء لمجرّد كونه ظاهرة اتصالية بصرف النظر عن أدائه الكارثي من حيث انعدام المشروع أو تواضع الموهبة القيادية.
تواجه هذه الديمقراطية الفتّية الزمن الاتصالي بموارد ضعيفة، ولن تتمكن أي حكومة من تحقيق النجاح، لان النجاح المطلوب اتصالي، ولان النجاح الاتصالي يكاد يكون مستحيلا، فشروطه غير متوفرة حاليا.
وللحديث بقية.
Comments