رئيس الحكومة وارتهان الدّولة
شعبان العبيدي
مع دخول رئيس الحكومة هشام المشيشي قصر القصبة وهو الذي لم تأت به انتخابات تعطيه شـرعية ولا هو المدعوم من قطب حزبيّ متحصّل على الأغلبية البرلمانية الّتي تمنحه قوّة وبرنامجا. لكن، ماذا عن أداء “حكومتنا العتيدة” وكيف واجهت التحديات وهي كثيرة ومتعددة؟
ليس خافيا الوضع المأزوم أو ما يطلق عليه عـــالم الاجتماع “محمد كـــــــرّو” الأزمة المفرطة سياسيـــا واقتصاديا وثقافيا وقيميا تخترق الجسم الاجتماعي والسياسي على حدّ سواء الذي وجــده رئيس الحكومة، الرّجل القادم من فضاء الإدارة بعقليتها وأساليبها مع فريقه الحكومي.
وقـــــــد بيّنت الكثير مـن المحطّات والأحداث ضعف الآداء وكيفية التعامل مع الوضع الصحيّ والاجتماعي اتّصاليا وعمليا، ناهيك ما عشناه من اضطراب ظاهر في إدارة وزارة الصحّة واستفحال موجة الوباء ومخلّفاتها المحزنة، هـذا إضافة إلى الدّوران في فراغ من جهة استمرار نقص الأدوية والتخبّط في اتّخاذ الإجراءات الوقائية لمــواجهة الوباء ظاهر للعيان.
وقد أكّدت هذه المحطّات غياب الخبرة وضعف التنسيق وعشوائية القــــــرارات وضعـف الجانب الاتّصالي الذي أصبح يمثل في حدّ ذاته أزمة تهدّد البلاد والمؤسسات السياديّة و منهــا ما تحـوّل إلى مداخل للتندّر والسخريّة.
منها الحديث الأخير لوزير الدّفاع وكشفه لما كـــــان يجب أن يظلّ ضمن جدران المؤسسة العسكرية، ومنها كلمات رئيس الحكومة ذاته منذ إطلالته الأولى. وهــذا كلّه يــؤّكد أنّ الدّولة سائرة نحو الاهتراء والتفكّك.
وعوض أن تكون الدّولة راعية للجسم الاجتماعي محافظة على توازنه وتماسكه باتت تعمل على تفكيكه وزرع الشقاق داخله. وبهذا نرى أنّ الخطاب السياسي للحكومة الجديدة لم يتغيّر عن سابقه بل هو يواصل اعتماد استراتجيات الخطاب الدّعائيّ. وبحسب المثل الفرنسي “إنّها نفس القدور التي تقدّم الحساء السيء”.
ويعدّ الاتفاق الأخير بين الوفد المفاوض المكلّف من رئيس الحكومة وشباب تنسيقية الكامور ومخرجاته المالية والتشغيلية دليلا آخر على عشوائية سياسية يقودها ديمقراطيون تحت الإنعــــــــاش حيث يصبح الخطاب السياسي للدولة قائما على نهج المنح الرحمانية، ويصبح منطق الدّولة الجديد هو الارتهان والخداع أو حلّ القضايا والمشاكل بالتمني والوعود.
وهو ما خلق حركة احتجاجية واسعـة في الجهات وتحرّكات كان يمكن أن تكون أكثر ضررا لولا الوضع الوبائي. وبهذا تبيّن لأبنـــــاء المناطق الدّاخلية والجهات الأكثر فقرا وتهميشا أنّ الدّولة المرتهنة باتت تغذي سياسة التفريق بيــــــن الجهات وتساهم في إثارة النعرات الجهوية و خلق تمايز بينها وغياب العدالة في توزيع الثروات والخـــدمات، وعدم التزامها بمفاهيم العدالة والمساواة ومفهوم المواطن لأنّها ليست دولة مدنية بل دولة الــــوضع الراهن هي دولة الارتهان الفاقدة لرؤية استراتيجية.
وقد زاد الاتفاق الأخير على إثر إضراب سلك القضاة، بين الحكومة وبين ممثلي المـــــؤسسة القضائية وخاصّة على إثر وفاة قاضية بعد إصابتها بفيروس كورونا –رحمها اللّه- وما أشيع حــول رفض مصحّة خاصّة إيوائها إلاّ بعد دفع مبلغ مالي ضخم، ببناء مستشفى خاصّ لهذا السلك ومنظوريه في تأكيد سقــوط الحكومة في سياسة عشوائية قائمة على محاولات تسكين الجراح بضرب من أفيون الوعود، رغم معرفة رئيس الحكومة بافتقار الدّولة في الوقت الراهن للرصيد المالي والوسائل المكنة لتحقيق هذه الــوعود في الوقت الذي كان من المنتظر من حكومة طرحت على نفسها برنامجا إصلاحيا أن تتـــــــوجّه كمــا يقول “محمد كرّو” نحو القضايا الرئيسية مثل أزمة التعليم والصحّة والبطالة وخاصّة بطالة أصحاب الشهــائد.
وكأن رئيس الحكومة بهذه الخطوات يسعى إلى مقاومة السقوط الذي يدرك أنّه كان يبرمـــج له أياما بعد تعيينه.
في ظل هذه السياسة العشوائية والإجراءات الفوقية وظهور الحكومة في مظهر الحكومة الرحمانية لا يمكن أن نفهم من ذلك إلاّ محاولة لامتصاص الغضب ومواصلة سيرة من سبقها في استخدام خطاب الــوعود والنيّة والشعوبية في الوقت الذي يدرك فيه رئيس الحكومة أن الدولة عاجزة بسبب أزمتها المالية وتفاقم الأزمة الاجتماعية والصحيّة، ولكنّها فتحت على نفسها بهذا الأسلوب بابا آخر للمطلبيّة الجهوية والقطاعيّة، فلمــاذا لم يأذن رئيس الحكومة أمام وفاة عدد كبير من سلك التعليم رغم عدده الضخم في اتّخاذ إجــــــراءات مثل التي اتّخذها لسلك القضاء؟ وهل هكذا يتمّ حلّ المشكل الصّحي بتمكين فئات ذات سلطة من الحقّ في مشافي خاصّة في الوقت الذي يترك فيه عموم الموظفين والشعب للقضاء والقدر ومواجهة الوباء بصدور عارية؟
إنّ هذه الارتجالية التي يسعى من ورائها رئيس الحكومة إلى أن يكون سيزيفيا يدفع الصخرة إلى الأعلى ويجهد نفسه في مغالبتها حتّى لا يتراجع ويفقد كرسي الحكم لا تدلّ على خيارات وطنية واضحة ورؤيــة تنموية وقوّة رجل الدّولة الذي يحتكم لمنطق الدّولة وليس منطـــــــق الارتهان الذي أجبرت عليـه الـدّولة التي تمرّ بصعوبة كبرى في مهمّتها الإصلاحية وهي أنّها تتبنّى فهما خاطئا للحلول والذّهاب كلّ مرّة إلى أكثر المواقف إثارة للجدل والمنافيّة للرؤيّة المتّزنة والعقلية، وباتت تخضع لمنطق (المثير-والاستجابة).
ان الحكومة تفتقد لرؤية تنموية وبــرنامج واضح لذلك تراها تميل إلى العفوية في القرارات والخضوع لمنطق الاستجابة تحت وطأة التحركات الاحتجاجية والتوترات، وهو دليل على تحلّل الدّولة رغم هذه المحاولات في إحيائها وإنعاشها.
ما يثيرنا فعلا من جهة أخرى هو غياب الدّولة في الفضاء والمكان، سواء من خلال المآسي التي تطفو على السطح كلّ يوم مثل قضية النفايات المورّدة والانفلات الأمني والتجاري في ظــــلّ غياب الرقابة والقانون خاصّة فيما يخصّ سياسة الاستغلال والنهب الذي لم تنفكّ المصحّات الخاصّة تنتهجه حتّى أنّ أصحابها لم يتورّعوا في استغلال جائحة كورونا في نهب المواطنين والمتاجرة بمصائبهم من خـــلال فرض أثمان خيالية على المرضى وأهاليهم، دون أن تحرّك الدولة ساكنا.
ولا شكّ أنّ مواصلة الحكومة في انتهاج هذه السياسة العفويّة والاستجابات المسقطة التي تعيدنا إلى الإيمان بالأساطير والخوارق، في وضع سياسيّ فقدت فيه الأحزاب دورها الجهوي وتمثيليتها و وظيفتها في تقديم تصوّر تنمويّ وطنيّ حسب خصوصيات الجهات، وفي ظلّ التحرّكات الجديدة الّتي عاد فيها الاتّحاد بقيادة أمينه العام بعد غيبة عن الأضواء كانت مفروضة في ظلّ ما تعرّض له مكتبه التنفيذي من حملة من منخرطي الاتّحاد ضدّ سياسة التمديد، وهو يحمل مشروع حوار وطني تدفعه مجموعة من الأحزاب ومنها أحزاب “الرئيس المنقذ” تأكيد على أنّ الحكومة وجدت نفسها بمفردها تسبح ضدّ تيّار جارف من المشاكل والقضايا، وكلّ الخوف أن يكون استنساخ قرطاج واحد وإثنين في هذه المرحلة تمهيد لسحب البساط من حكومة المشيشي، أو براءة اختراع أخرى من العقل السياسي التونسي للإجهاز على ما بقي.
Comments