راشد الغنوشي: خطوة للأمام .. خطوتان للوراء
خديجة زروق
يبدو ان الشيخ راشد الغنوشي يرفض التقاعد الحزبي والسياسي. فبعد مروره بفترة صعبة، داخل النهضة وفي البرلمان وحتى على مستوى مؤسسات الدولة، يسترد الشيخ الثمانيني زمام المبادرة، ويفرض نفسه لاعبا رئيسيا بل محددا في مجريات الحياة السياسية في تونس، وفي مستقبل الحركة الاسلامية بها.، وكذلك “لاعبا” في علاقات تونس الخارجية، مستفيدا من ضعف وتراجع الدبلوماسية الرسمية.
أما في الخارج، فقد كان – وما زال – راشد الغنوشي، الشخصية السياسية الرسمية الوحيدة التي “يحج” اليها الفرقاء الليبيين غداة مؤتمر المصالحة في تونس. فقد صرح “الشيخ” ان المشاركين مروا به وانه تبادل معهم الحديث في مستقبل ليبيا وخاصة في مستقبل علاقاتها بتونس.
وبقطع النظر على المقاربات الايديولوجية العبثية التي تنتقد خطوات الغنوشي ومبادراته الخارجية، فان رئيس البرلمان يقوم فعليا بتعبئة دور اهمله رئيس الجمهورية وقصر فيه رئيس الحكومة.
وفي الوقت الذي تستثمر فيه قوى حزبية لعزل تونس على محيطها العربي والإسلامي وحتى الاوروبي، يبدو الغنوشي محجة حقيقية للسفراء وممثلي المنظمات الدولية، وليست زيارة سفير فرنسا وغيرها من عواصم العالم المؤثرة له الا دليلا على ذلك.
كما ان الغنوشي يواصل بحماس، رغم كل الانتقادات ضمان علاقات جيدة مع قطر وتركيا، في لحظة تحتاج فيها تونس الى الدعم والمساندة، لتجاوز ظروفها الصعبة.
لكن يبقى التحدي الأهم الذي علي “الشيخ” تجاوزه بأمان ودون خسائر له وللتنظيم الذي بناه منذ أكثر من نصف قرن هو قطعا الخلاف الداخلي في حركة النهضة و”تمرد” جزء كبير من قيادتها المحلية والجهوية والمركزية على سلطة الاب.
فقد ظهر على السطح خلاف حقيقي داخل “تنظيم الجماعة” الذي تعود كتم اسراره و حفظ تفاصيل حياته الداخلية. تمرد “الأبناء الضالين” كان موضوعه هذه المرة سياسي، يتعلق بوراثة مؤسس التنظيم الذي انفق الشيخ اكثر من نصف قرن في تأسيسه ورعايته وتطويره، وانتقل به من مجموعة دعوية الى حزب سياسي يتحكم في مفاصل الدولة ومشاركا فعالا في حكم البلاد.
ثورة الابناء الضالين بدت وجيهة لآنها تعلقت بمسألة الديمقراطية داخل التنظيم، لكن الشيخ المؤسس بادر في تصريحات مختلفة اخرها تصريحه البارحة لقناة “الجزيرة”، الى التأكيد على التزامه بالفصل ال 31 من القانون الداخلي للحركة والذي يقضي بتحديد مدد رئاسة الحركة ولا يسمح له بولاية جديدة في المؤتمر المقبل للحركة، في تراجع مفاجئ للزعيم صاحب “الجلد الخشن”. فهل هو خيار “مبدئي” أم أن الرجل اختار العمل بالمقولة اللينينة المشهورة: “خطوة للأمام .. خطوتنا للوراء”؟.
بات جليا اليوم ان المعركة لا تعني التمديد للرئيس المؤسس بقدر ما تعني ترتيب بيت الجماعة لاستقبال مرحلة ما بعد الشيخ المؤسس. لذلك لا يبدو الصراع في النهضة صراعا مبدئيا على الديمقراطية الداخلية، و لا صراعا برنامجيا ولا متعلقا بمدى تعميق مراجعات الحركة بقدر ما يبدو معركة شخصية للهيمنة على حزب له آلة انتخابية ضخمة وله تقاليد وتنظيم تجعل منه طريقا سهلا نحو السلطة.
معركة النهضة هي معركة دنيوية حول السلطة ومنافعها، لذلك يبدو الشيخ الغنوشي فيها في موقع مريح اكثر من خصومه، من الشباب المتلهف على السلطة والمتعطش الى منافعها.
وبعيدا عن تحديات التنظيم والعلاقات الخارجية وما صاحبهما من جدل، فان ثالث التحديات هو في علاقة بطبيعة العلاقة مع رئيس الجمهورية. فرغم الجفاء الذي طبع علاقة الرجلين، فان راشد الغنوشي لم يتوان قط، في ابراز احترامه لرئيس الجمهورية .
وتعكس تصريحاته الاخيرة “نضجا” سياسيا واحتراما للمؤسسات في ساحة سياسية أصبحت تعج ب “الهواة”، و رغم ان رئيس الجمهورية نفسه بادر بعد عودته من زيارة قطر ببعث رسائل تهدئة في علاقة بالغنوشي والبرلمان والنهضة.
تجسير الفجوة مع قرطاج، خطوة تحسب للشيخ الذي يروم ان يكون قوة تجميع وخير بدل القوى الاقصائية والشعبوية التي علت اصواتها في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الديمقراطية التونسية.
و بذلك اكد الغنوشي على امرين مهمين، اولهما حرصه على انجاز المصالحة الوطنية الشاملة، بشكل يطوي نهائيا ملفات الماضي هذا الحرص على المصالحة تحكمه رغبة الغنوشي في اتمام “التوافق” الذي انفرط عقده مع المرحوم الباحي قايد السبسي، دون ادراك غاياته.
مصالحة ان نجحت ستضع الشيخ في مرتبة “الجامع” الوطني والمنتصر على الاصوات الاقصائية والفوضوية.
في حوار الغنوشي الأخير لقناة “الجزيرة”، اكد على “الحوار الوطني” و ينخرط بذلك في سلسلة المبادرات الداعية الى ندوة وطنية شاملة لتحاوز اللحظة الصعبة التي تعيشها تونس. وهنا يؤكد زعيم الاسلاميين دعمه لمبادرة اتحاد الشغل و مساندته للجهود التي يبذلها رئيس الجمهورية مع بعض الأحزاب لإطلاق حوار وطني اقتصادي واجتماعي.
غير ان رئيس مجلس نواب الشعب ذهب بعيدا من خلال تأكيده على ان هذا الحوار الوطني يجب ان يتناول كل المسائل الخلافية التي تشق النخب وتكرس الشقاق في الساحة الحزبية والبرلمانية. دعوة مرادها الرغبة في حل الاشكاليات المتراكمة منذ الثورة والتي ظلت على هامش النقاش الوطني.
لم ينس الغنوشي الحراك الشبابي الاجتماعي الذي تفجر في اكثر من جهة. فاقترح اعادة توطين جزء من الثروات وارباح المؤسسات العمومية في الجهات والمناطق المحرومة. دعوة تعكس فهما مقاصديا للباب السابع من الدستور الذي يكرس الحكم المحلي، ولكن تمثلا عميقا لمجلة الجماعات المحلية التي تؤكد على الطابع التشاركي في صياغة المشاريع التنموية، وخاصة على آلية الحوار المواطني في تحديد أولويات الاستثمار والانفاق وابواب الميزانية فيما يعرف بالتدبير الحر.
التقط “الشيخ المناور” تحولات اللحظة وادرك وجاهة المطالب الشبابية الاجتماعية ولكنه حرص على ابقائها داخل “منظومة الدولة” .وهنا أيضا يبرهن راشد الغنوشي على انه لاعب سياسي محوري في تونس.
مما كل ما تقدم من رحلة في مسار شيخ الحركة الاسلامية في تونس، يتبين لكل متابع حصيف وموضوعي أن الرجل يبقى محدد في مستقيل تنظيم الذي أسسه في سبعينات القرن الماضي ، و في الفضاء السياسي الوطني وكذلك الاقليمي والدولي في علاقة بتونس وايضا بتيار الاسلام السياسي العالمي.
لكن، الثابت والجلي أيضا، هو ان راشد الغنوشي يظل في كل الحالات صورة اخرى ل “الزعماء” الذين عرفتهم تونس وللارث البورقيبي وهو الذي قال عنه عالم الاجتماع عبد الباقي الزغل أنه “الابن غير الشرعي لبورقيبة”.
زعماء يرفضون “الانصراف” و التخلي على السلطة التي تفتنهم بما فيها من بهرج وسلطان، ليظل السؤال الكبير و المصيري هو حال تنظيم النهضة بعد الغنوشي في ظل حالة “التصحر” التي خلقها من حوله؟
Comments