راشد الغنوشي في لقاء تلفزي يؤكد على “التمسك بالتوافق” ويجدد “الدعوة للمصالحة الوطنية”
المهدي عبد الجواد
بدا راشد الغنوشي رئيس مجلس نواب الشعب وزعيم حركة النهضة الإسلامية في لقائه التلفزي على الوطنية الأولى، وفيا لخطه السياسي الذي بدأه صائفة سنة 2013. ويبدو متمسكا أكثر من أي وقت بشروط التوافق الوطني والمصالحة الوطنية الشاملة.
فقد كرر في لقائه أكثر من مرة، على كون تونس تستحق من نخبها السياسية وتياراتها المختلفة الاتفاق على قواعد العيش المشترك، إذ ان الاختلاف لا يمنع “الالتقاء في حب تونس وخدمتها” .
وأكد الغنوشي غلى ضرورة الوفاء للطابع السلمي للثورة، وهذا يستدعي في نظره، تجاوز ثقافة الإقصاء والتعالي على الأحقاد والانتقام، لكن ذلك يستدعي أيضا نشر ثقافة العمل وسلطة القانون لتكريس عدم الإفلات من العقاب.
الغنوشي ألح أيضا على ضرورة تكريس المصالحة الشاملة، لأنها سبيل التونسيين لبناء ديمقراطية ذات منوال تشاركي يهدف للمجتمع المُرفّه مستقبلا، لان ذلك هو التعبير الأمثل على “الاستثناء التونسي”.
وأضاف الغنوشي أن “العمل وتنمية الإنتاج والترفيع في الإنتاجية” هي السبل الكفيلة بإخراج تونس من الصعوبات التي تعيشها، لان المطلوب هو “فتح فانة العمل، وفانات العقول والابداع، فانات الاقتصاد والقانون”.
لم يخرج الغنوشي في الجملة على خطه السياسي العام، بل أشار في معرض حديثه لحركة النهضة وما يعتمل فيها من صراعات وتجاذبات، فأكد أن النهضة حزب يعيش مشاكل غيره من الأحزاب، ويبدو انه يشير في ذلك الى “ضعف الثقافة الحزبية” وهو أمر مفهوم، نظرا لكون اغلب منتسبيها يستبطنون ثقافة الاستبداد التي منعتهم من تطوير الوعي التشاركي وتمثل القيم الديمقراطية الضرورية لإدارة العيش المشترك في مجتمع المواطنة، و حوكمة الأحزاب.
فما تعيشه أحزاب اليوم هو نتيجة طبيعية لعمليات التصحر القسري الذي مارسه نظام الاستبداد بمنعه التطور الطبيعي للحياة الحزبية والثقافة الديمقراطية.
لقد بدا راشد الغنوشي هادئا في حواره، جاهزا للأسئلة وله رؤية واضحة لمختلف المسائل الوطنية والحزبية والإقليمية، رؤيا قد لا نتفق معها ولكنها موجودة، فقد حرص زعيم التيار الإسلامي طيلة حواره على اظهار نفسه في مظهر “رجل الدولة” المُتعالي على صغائر الامور وعلى “تفاهات الصراعات الطفولية” و بدا أيضا حريصا على التموقع في “مرتبة الزعماء الوطنيين”.
من جهة الحرص على المصلحة الوطنية العُليا، ولعله يُكرّس بذلك ما قاله فيه رئيس مجلس شورى النهضة عبد الكريم الهاروني بكونه “زعيم وطني في مرتبة حشاد وبورقيبة”، ومُجيبا بطريقة خفية على تسريبات “مجموعة المئة المنشقة” في النهضة والتي تدّعي ان الشيخ يستعدّ لرئاسيات 2024.
كل ما تقدّم يبدو لنا مشروعا ومفهوما في الفضاءات السياسية التي يتحرك فيها الرجل، غير ان ذلك لا يمنع من طرح بعض الأسئلة التي نراها مهمة، لقراءة الظهور الفجائي للشيخ على القناة الوطنية الاولى. ما هي رسائل الشيخ التي أراد إبلاغها ولمن؟
لقد حرص الشيخ في اعتقادنا على تقديم نفسه للتونسيين، بصفته “رئيسا”. إذ بدا وكأنه يملأ فراغا في الساحة السياسية، فراغ خلقه “غرق الفاعلين السياسيين في الصراعات الصغيرة” لذلك تناول الشيخ مسائل وطنية كبرى، اجتماعية وتنموية وجهوية.
فبقدر حرصه على ضرورة “توطين جزء من ثروات الجهات بها” في اطار التمييز الايجابي وفي اطار “مشروع وطني لتنمية الجهات الداخلية ورفع الحيف عليها” فقد حرص على كون الثروة الحقيقية تكمن “في العمل والعلم والابداع”.
كما اكد على كون التونسيين محكومين بــ “التوافق” والتسلم وانه لا مجال للدفع بهم نحو “الاحتراب”، ورغم كل ما طاله من تهجمات وترذيل ظل الشيخ مُتمسكا “بثقافة المصالحة” وهو ما أكده في علاقة برموز النظام السابق، حرص على النسيان، لم يستطع خصمه عبد اللطيف المكي بلوغه في ظهوره الموازي للشيخ، فقد أكد المكي على ضرورة “الاعتراف والاعتذار” لغلق ملف جراحات الماضي.
مع المصالحة، برزت كلمة مفتاح أخرى هي “الثقة”، فبدونها لا مجال لبناء مشروع وطني. الثقة بين المؤسسات من جهة وبين الفاعلين الحزبيين ومختلف الأطراف الاجتماعية والاقتصادية، ثقة ضرورية حتى في البناء الاجتماعي، إذ ل بديل عنها بالنسبة للتونسيين.
و أهم الرسائل في خروج “الشيخ” في اعتقادنا موجهة للخارج. إذ ان الحوار جاء غداة انطلاق مفاوضات الشوط الاخير للحل النهائي في ليبيا، والجميع يعلم ما للغنوشي من علاقات مع مختلف الإطراف في ليبيا وخاصة التيارات الاسلامية، خروج جاء ليقول من خلاله الغنوشي ان له علاقات في ليبيا وان كل حلّ فيها يجب ان يمرّ بشكل ما بتونس، ولكن به خاصة، وهو ما أشار اليه بكون “كل المشاركين زاروه، والتقى بهم”.
ورسالة اخرى توجه بها الغنوشي الى أصدقاء تونس في أوروبا وخاصة أمريكا، إذ ان التغيرات التي قد تطرأ على السياسات الدولية في علاقة بالإسلام السياسي وبتجارب الانتقال الديمقراطي، قد تُلقي بظلالها على التجربة التونسية وتحديدا على حركة النهضة. ولذلك حرص الغنوشي البارحة على الظهور في “ثوب الضامن” لهذه التجربة الحريص على قيمها السلمية وعلى عمقها الديمقراطي.
رسائل مختلفة تلك التي ألقى بها الغنوشي، بعضها للداخل النهضاوي في تصريحه بعدم نيته الترشح مرة أخرى لرئاسة الحركة، وبعضها للداخل التونسي، فبدا مُتشبّعا بثقافة التوافق في اشد اللحظات التي تعيشها تونس انقساما داعيا الى المصالحة الوطنية والى التسويات التاريخية الضرورية لتجاوز صعوبات الوباء والأزمة الاقتصادية.
ورسائل إقليمية بكون تونس معنية بحل الأزمة الليبية ولكن خاصة بعملية إعادة الاعتمار لما للبلدين من علاقات عائلية وتاريخية واقتصادية عميقة، وآخرالرسائل توجه بها للقوى الغربية، التي عليها عدم “خلط الاسلاميين في تونس مع غيرهم من التيارات الاسلامية الراديكالية المتطرفة” فهم حريصون على الديمقراطية وعلى التسامح والمصالحة، لذلك عليهم مساعدة “الاستثناء التونسي” والمشاركة في حمايته من الانهيار.
في الجملة رغب الشيخ في الظهور في ثوب الرجل الجامع للنهضاويين وللمؤمنين بالمشروع الديمقراطي، ضامن للمصالحة الشاملة بين مختلف القوى. التمسّك بالتوافق في منظومة ديمقراطية والدعوة للمصالحة الشاملة هما المفتاحان الرئيسيان في لقاء الغنوشي التلفزي.
Comments