راشد الغنوشي .. ومعاركه الأخيرة
المهدي عبد الجواد
لم يتوقف الأستاذ راشد الغنوشي على النشاط السياسي منذ أكثر من خمسين عاما. وظل طيلة هذه المسيرة السياسية الطويلة في قلب التجاذبات والصراعات والمعارك دون توقف.
فمنذ بدايات الجماعة الإسلامية في تونس، نهاية سبعينات القرن الماضي، كان راشد الغنوشي وجماعته محور بارز في الحياة السياسية الوطنية، في علاقة معقدة ومتداخلة الأطوار، مرت من تسامح السلطة في البدايات الى الصراع الى التوافق مع محمد مزالي فالمواجهة مع بورقيبة و “تهدئة” مع بن علي سرعان ما تحولت إلى مواجهته شرسة.
كان راشد الغنوشي – ولا يزال – الرقم الأول لــ”جماعته” قائدا سياسيا، ومشرفا تنظيميا ومرشدا فكريا وفقيها شرعيا، جمع كل نواحي الحياة في “الحركة الإسلامية” بتونس. وحتى تمكّنه بعد الثورة من قيادة حركته إلى “الهيمنة” على الحياة الحزبية في تونس، لم يشفع له ليضمن طاعة “مريديه” فما بالك بانتقاد خصومه.
اليوم ، و راشد الغنوشي، في خريف “العمرين”، الشخصي والسياسي، يجد نفسه من جديد في استمرار لمعارك لا تنتهي ولا تتوقف. والمُرعبُ فيها هذه المرّة، أن خسارتها قد تكون نهائية، فلم يعد في العُمْر مُتّسع للتدارك.
معركة النهضة… هواجس المستقبل
عبر راشد الغنوشي بحركة النهضة محطاتها المختلفة، كانت تاريخا طويلا متشعّبا. وفي طريقه عرف الشيخ وأنصاره تاريخا عاصفا “لم يُقيّم بعدُ”. تتعاورُه قراءات مختلفة وتأويلات متباينة.
و لكنه في الجملة تاريخ الشيخ وحركته. سقطت فيه أرواح، وسُجن فيه المئات ونُفي فيه العشراتُ. ودقّت ساعة الرحيل. رحيل القائد المؤسّس المُلهم، و حلّ مع الرحيل الحسابُ. و تحرّرت الأطماعُ الكامنةُ عند قيادات الحركة في وراثة قيادة التنظيم، وخلافة شيخها.
أطماع برزت بصفة علنية في المؤتمر العاشر للحركة، الذي شهد إعلانا صريحا على التمرّد، و ظهور تيّار قويّ داخل الحركة معارض لمقاربات حوكمتها السياسية و التنظيمية و حتى المالية التي ظلت طيلة عقود من الصلاحيات الحصرية للشيخ راشد.
لقد انكسر منذ مدة قانون الصمت الذي هيمن على حياة الجماعة. فقد كان عبد الحميد الجلاصي أشد على الشيخ و على الحركة من كلّ خصومها. كاتبا بليغا، و متحدثا فصيحا.
كشف الجلاصي أحد الزعماء التاريخين الكبار ومسؤول التنظيم الداخلي للحركة، كشف كثيرا مما يدور داخل “قلعتها” المظلمة، زبونية و أموال و قرابات و علاقات عائلية و انتهازية تنخر التنظيم، بشكل جعل حركة النهضة حزبا غير مختلف بتاتا على بقية الأحزاب التونسية، تُعاني نفس عللها و تشكو نفس امراضها.
هذا التحدي بلغ أوجه بالصراع داخل الحركة في اختيار مرشحها لرئاسة الحكومة… و صارت المعركة علنية، حسم فيها الشيخ أمره بحلّ المكتب التنفيذي، و الاستحواذ على كل السلطة التنفيذية فيها، مع تأجيل المؤتمر الحادي عشر الى أجل غير مسمى، لعله يكون عندما يُرتّب الشيخ تفاصيل الانتقال السلس لقيادة الحركة، و يُهيّئ من يراه كفؤا لخلافته.
نعتقد ان ذلك لن يكون سهلا، و الأقرب أن يكون “استخلافا” لقيادة جماعية من الجيل الثاني للحركة. هذا التحدي لن يكون سهلا، و لكن النجاح فيه حتميّ لأنه الضمانة الوحيدة، لتواصل “الحركة الإسلامية” في تونس، بشكلها النهضاوي الذي هندسه راشد الغنوشي. خاصة وان التيارات الإسلاموية المتطرفة تُهدد “النهضة” في وجودها.
السياسة…. الديناصور الأخير
مات كلّ الذين واجههم الشيخ راشد الغنوشي، رحم الله بورقيبة و بن علي واخرهم الرئيس الذي بنى معه “توافق” تاريخي الراحل الباجي قايد السبسي.
وعندما اعتقد راشد الغنوشي ان مروره برئاسة مجلس النواب، سيكون سهلا، انفجر المنصب بين يديه، فوجد الشيخ نفسه في دوامة من “العُراك” اليومي، و الهرج و المرج. تكفلت فيه عبير موسي بدور “المنغّص” الدائم لنهارات الشيخ. و أكمل “صِغارُ النواب تنغيص المساءات….مجلس يبدو أنه لن يهنأ برئاسته قط.
خارج اسوار قصر باردو هناك جبهة اخرى مفتوحة امام “الشيخ”، والتي يقول عنها أنصاره انها المعركة الحقيقية التي على الشيخ خوضها، وهي معركته مع قيس سعيد رئيس الجمهورية.
فبين “الشرعية” و المشروعية” خطب قيس سعيد جنوب البلاد و شمالها ووسطها، داعيا إلى سحب التفويض من البرلمان “الذي خان الأمانة”. معركة السلطة هذي ستدفع إلى شرخ كبير في علاقات مؤسسات الحُكم ببعضها البعض، و تُنذر بإمكانيات الانزلاق نحو سيناريوهات كريهة، لعل أقربها تعطيل أشغال مجلس نواب الشعب، وهو ما سيشُلّ عمل النظام برمته.
شلل ربما قد يُسعدُ قيس سعيد، و لكنه باب لمخاطر عديدة على البلاد أولا، و على راشد الغنوشي و حزبه ثانيا. إذ أن النهضة أكثر الأحزاب تنظُّما و تهيْكُلا، تتحكم في المشهد السياسي عبر سيطرتها على البرلمان، سيطرة ليست مستعدّة للتخلي عليها.
لذلك يبدو صعبا الوصول الى صيغ وُسطى بين الرئيسين، رئيس قرطاج و رئيس باردو. وراشد الغنوشي آخر الديناصورات ليس في وارد ذهنه خسارة معركته مع قيس سعيد الوافد الجديد على الشأن السياسي، و لذلك ستكون المعركة بينهما شرسة و طويلة.
النّخب…. معركة الاعتراف
يخوض راشد الغنوشي معركة أخرى متواصلة منذ بداياته السياسية، معركة الاعتراف به من النّخب التونسية. لقد ظل راشد الغنوشي دائما شخصا “غير مرغوب فيه”.
فرغم غزارة إنتاجه الفكري ووفرة كُتبه، و التبجيل الذي يحظى به خارج تونس، فإن النُخب التونسية تُناصبه العداء.
و رغم ما للشيخ من دور سياسي مهم، وطنيا و إقليما، عربيا و إسلاميا، تُترجمه علاقاته بزعماء العالم و رؤساء و ملوك ووزراء في مشارق البلدان و مغاربها، فأن صورته في العقل السياسي التونسي صورة سلبية.
اجتهد الشيخ كثيرا لتحسين صورته و سيرته. و قطع كلّ ما يربطه بــ “الشيخ الإخواني”، و تبرّأ من “الاخوان” و جادل في قضايا الحريات الشخصية، في مسائل المثلية أو المخدرات او حرية الضمير، بشجاعة غابت على الكثير من أدعياء الحداثة و أوليائها الصالحين، دون جدوى.
فهذه المعركة التي أراد منها “الاعتراف” به كزعيم وطني، و كـــ “مجاهد” نذر حياته – مثلما قال نورالدين البحيري- لأجل تونس و التونسيين، لا يبدو انه نجح فيها.
سيظل الغنوشي “يُجاهد” يشحذُ هذا الاعتراف، و يسأل إدراك مرتبة زعماء هذي البلاد في مختلف الأحقاب و من مختلف المدارس الفكرية و التيارات السياسية.
معارك الشيخ الأخيرة، هي المعارك النهائية. لانها معارك التاريخ. فمعركته داخل النهضة هي التي ستكون حاسمة في مدى تواصل المشروع الذي رعاه منذ خمسين عاما.
و معركته مع رئيس الجمهورية، و ان كانت في ظاهرها حول السلطة، فان الانتصار فيها هو احد شروط تواصل وحدة الحركة، لان السلطة و غنائمها يُمكن أن تُطعم الألسن و تُخمد النيران، و كلاهما باب لفرض الاعتراف بالشيخ لدى الرأي العام و النخب التونسية.
معارك جديدة، لشيخ ألف الصراعات. عليه ان يجد ما يكفي من الجُهد و العُمر ليس ليخوضها، بل ليفوز فيها.
Comments