راشد الغنوشي يكتب عن ضرورة التمسّك بـ”الوحدة الوطنيّة”
كتب: راشد العنوشي
شدد رئيس حركة النهضة، ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، خلال الفترة الأخيرة على ضرورة دعم وتفعيل “الوحدة الوطنية”، وكان ذلك من خلال دعوته الى حكومة “وحدة وطنية”، أو من خلال استقبال عدد من الشخصيات الوطنية، من روافد سياسية مختلفة، خاصة من الرافد الدستوري، الذي حكم تونس لسنوات طوال، في مسعى واضح منه لتحقيق “المصالحة”، بين العائلات السياسية الكبرى في تونس.
كما أن الغنوشي، لم يفوت الفرصة للتأكيد على الحاجة الملحة، بل والضرورية ل “الوحدة الوطنية”، لمجابهة التحديات العديدة والمركبة التي تواجهها بلادنا، و يواجهها مسار الانتقال الديمقراطي.
يواصل الغنوشي المسعى الذي انطلق فيه مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، من خلال سياسة “التوافق”، التي وان لم يكن لها منجزا اقتصاديا مهما، فإنها “حمت” التجربة التونسية، وجعلتها تصمد وتستمر .
و في هذا السياق، نشر الأستاذ راشد الغنوشي اليوم الأحد 8 مارس 2020، بجريدة “الشروق” مقالا تحت عنوان “لهذا وجب علينا التمسك ب “الوحدة الوطنية”.. في ما يلي نص المقال:
“قد يبدو للبعض أنّ تمسّكنا بمفهوم الوحدة الوطنيّة كان لحسابات ضيّقة وفي إطار مناورات للضغط على مسار تشكيل حكومة السيّد إلياس الفخفاخ، ولكن سيتأكّد الأمر خلال الفترة القادمة أنّ ذلك التمسّك مبدئيّ وخاضعٌ لتقييم موضوعي للمرحلة التاريخيّة التي تمرّ بها بلادنا وحاجتها الملحّة إلى تجميع كلّ الجهود والطاقات الوطنيّة لتحقيق المأمول لدولتنا وشعبنا.
لقد خاضت بلادنا تجارب عديدة في تجميع الجهود منذ الاستقلال، ولكن تلك التجارب بقيت رهينة النوايا دون تفعيل حقيقي، مبنيّة في تطبيقاتها على رغبات الهيمنة والاستبعاد والإقصاء، ممّا جعلها تبوء بالفشل لأنّها لم تتجاوز القول والخطاب السياسي إلي الفعل وتجسيد عملي لمفهوم الوحدة الوطنيّة، ونذكر في هذا الصدد بالخصوص تجربة الجبهة القومية مباشرة إثر الاستقلال وتجربة الميثاق الوطني نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وبقيت النخبة في كلّ تلك المحطات وغيرها مسكونة بهواجس الخوف من الآخر المختلف وبصراعات السلطة وحسابات التموقع وتحقيق المكاسب الفئويّة الضيّقة ومرات الفرديّة النرجسيّة وتردّدُ الشعارات والحاجة إلى الوحدة دون المرور إلى تنفيذ مقتضياتها.
إنّ الوحدة الوطنيّة اليوم أصبحت شرطا ضروريا لإقلاع بلادنا وانطلاقها في مسيرة النماء والرقي وتحقيق التنمية والاستجابة لاستحقاقات المواطنين الاقتصاديّة والاجتماعية، كما أنّها باتت دعامة أساسيّة لحماية دولتنا وتعزيز قدراتها في ظرف محلي وإقليمي ودولي صعب.
لقد كان رفض الإقصاء شعارنا منذ قيام الثورة ولم نتخل يوما عن تلك القناعة التي عملنا على أن ترتقي إلى مستوى السياسة العامَّة لحركتنا وفكرنا تقودنا دائما لتحقيق أعلى ما يُمكن من الانسجام مع حاجيات بلادنا المؤكّدة في تجاوز مخلَّفات الماضي الاستبدادي والتسلطي والتقريب أكثر ما يُمكن بين التونسيّين من مختلف التوجّهات حدا من سطوة الإيديولوجيا والتجاذبات المصلحيّة والضيّقة، وايمانا منّا بأنّ المصلحة الوطنية ترعاها كلّ الجهود دون استثناء لأيّ طرف أو جهة.
فكانت تجربة الترويكا سنة 2012 خطوتنا الأولى في سبيل تنفيذ سياسة المشاركة والتوافق داخل مؤسّسات الحكم وبينها، وكانت تنازلاتنا لحكومة الكفاءات المستقلّة تأكيدا منّا على خطورة ما كان يتهدّد بلادنا من انقسام مجتمعي خطير غذّتهُ حينها الأحقاد والمؤامرات والإرهاب والاغتيالات وحرصا منّا على الإبقاء على جذوة الثورة متّقدة وتجسيد المرتكزات الأولى لانتقالنا الديمقراطي بالمصادقة على الدستور وتركيز الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات.
وحقّقنا مع سي الباجي رحمه الله تجربة فريدة في التوافق الوطني حمت البلاد من أتون الفتنة ووفّرت قدرا من الثقة والطمأنينة بين العائلات السياسيّة الكبرى في البلاد وهيّأتنا لإنجاز اللبنة الأولى في الحكم المحلي بإجراء الانتخابات البلدية في ماي 2018 ومهّدت لتجاوز الطوارئ التي رافقت رحيل سي الباجي رحمه الله ومهّدت فعليّا لدخول بلادنا عالم الدول الديمقراطية ببلوغ أوّل انتقال سلمي للسلطة وفق ضوابط الدستور الجديد وتأمين سيرورة الحكم الدائم والمستقر.
كثيرون ينتقدون سياسة التوافق بيننا وسي الباجي، ولكن هؤلاء لا يقدّرون ما كان لتلك السياسة من مزايا في التهدئة وتحقيق قدر هام من الاستقرار الوطني وتأمين سلامة اشتغال مختلف مؤسّسات الحكم والتلاقي حول مشاغل كبرى أبرزها تقريب وجهات النظر التي كانت منذ صيف 2013متباعدة وزادتها تعقيدا التحوّلات الإقليميّة وما عرفتهُ موجة الثورات العربيّة من تحديّات وصعوبات جمّة وحالة الاضطراب والاحتراب الأهلي التي عرفتها بعض أنحاء المنطقة.
لا يُقدّر كثيرون أنّ مسارنا الانتقالي كان مهدّدا، إن لم نقل أنّه كان مُستهدفا، وكنّا منذ لقاء باريس في شهر أوت 2013 ولاحقا عند مُباركة مبادرة المنظمات الوطنيّة وإمضاء وثيقة خارطة الطريق واعين بدقّة المرحلة وصعوبة الرهان وشاعرين بأنّ شعبنا قد يخسرُ تجربتهُ في الانتقال نحو أفق الحريّة والديمقراطيّة مرّة واحدة، وأنّ المكاسب السياسيّة القليلة التي تحقّقت حينها كانت مُهدّدة بالانكسار والخيبة، فكان الرهان على تأمين ذلك التطلّع وحمايتهُ من كلّ المنزلقات والانحرافات الخطيرة.
الوحدة الوطنيّة، في تقديرنا، ليست مجرّد شعار وليست غايتها مطلقا تكسّبا سياسيويا ظرفيا أو بحثا عن تموقع في خارطة الفعل السياسي والحزبي، هي أبعد من ذلك بكثير: هي ضرورة للمرحلة التي تمرّ بها بلادنا، فبعد تسع سنوات من الثورة نجدُ أنّ:
1/
البناء الديمقراطي ما يزال مُهدّدا، فالمحكمة الدستوريّة لم يقع تركيزها بعد وهيئات دستورية مستقلة أخرى ما تزال غائبة وتشريعات انتخابية تحتاجُ المراجعة والتعديل ومسائل قانونيّة تهمّ الحكم المحلي لم يتمّ الانتهاء منها. وهذا ما يستدعي أعلى درجات التوافق لتوحيد الجهود لاستكمال هذا البناء بما يعزّزُ أركانهُ ويحميه من كلّ الاهتزازات.
2/
المطلب الشعبي الواسع في التنمية والتشغيل وتحسين ظروف عيشهم لم يتحقّق منه الكثير، ويستدعي هذا المطلب وبصفة عاجلة انكبابا على القضايا والملفات الاجتماعيّة بصدق وتفان وترسيخ ثقافة العمل وتحفيز الاستثمار والمبادرات الخاصة وتأمين أقصى درجات اندماج رجال الأعمال والرأسمال الوطني والأجنبي في الحركيّة الاقتصادية المأمولة وتثمين ما تكتنزهُ بلادنا من خيرات وثروات، ومناخ بمثل تلك الميكانيزمات والآليات قادر على ضمان رفع نسبة النموّ ونسق الإنتاج الوطني ويُتيح من ثمّ الفرص الكبيرة لتوفير مواطن الشغل وتنشيط الأسواق وخفض الأسعار ويرفع الضغوط على المقدرة الشرائيّة للمواطنين ويُسهم في تعزيز طاقة التصدير ومخزون البلاد من العملة الصعبة ويُؤمّن في النهاية أمام المالية العموميّة وخزينة الدولة الطريق لتحقيق توازنهما ويُعيد للعملة الوطنيّة وزنها وقيمتها.
3/
التحدي المتواصل تجاه ظاهرة الإرهاب خاصة في ظرف إقليمي ودولي صعب يتميّز بكثافة النزاعات والحروب وانتشار السلاح وحالة الفراغ والفقر والتهميش والخصاصة التي يعيشها الشباب، لذا فإنّنا نحتاجُ إلى تجميع صفوفنا جميعا لمجابهة هذه الظاهرة الخطيرة ووضع الاستراتيجيّات التعليميّة والثقافيّة والأمنيّة والتنمويّة الكفيلة بوقف سلوكات التشدّد والغلوّ والتطرّف وترسيخ قيم ديننا السمحة وتعزيز ثقافة التعايش وقيم المساواة والعدالة.
ورأينا، ونحن بصدد الاحتفاء بملحمة بن قردان الخالدة التي شكّلت صخرة تحطّمت عليها داعش، كيف أنّ الإرهاب ما يزال يتهدّدُنا ويستهدفُ قوات أمننا البواسل واستقرارنا وأمننا الأسري والمجتمعي.
وبالمناسبة نعزّي أنفسنا ونعزّي التونسيّين جميعًا في جميع شهدائنا، وآخرهم الشهيد البطل محمّد توفيق الميساوي الذي راح ضحيّة العمليّة الإرهابيّة الغادرة والجبانة صباح الجمعة 6 مارس، ونتمنّى الشفاء العاجل للجرحى.
4/
مسار الإصلاحات الكبرى ما يزال متعطّلا، إذ برغم حالة الإجماع على التشخيص السلبي للواقع بما فيه من تحديات ومخاطر عديدة والوعي العام بضرورة، بل إجباريّة، تنفيذ إصلاحات ومشاريع كبرى في قطاعات حيويّة عديدة، منها المتعلّقة بالمالية العموميّة والمناخ الاقتصادي والمرافق العموميّة الأساسيّة المختلفة كالصحّة والتعليم والنقل والثقافة والبنيّة الأساسيّة، برغم ما يُعلنهُ الجميع من أهميّة تلك المسألة فإنّ الواقع يشي بحالة من التردّد والارتباك وضبابيّة التوجهات الوطنيّة الكبرى وغياب الإرادة الكفيلة بالشروع فعليّا في إقرار ما يجب من خطط وبرامج.
وفي كلّ هذه الرهانات، السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، فإنّ مطلب الوحدة الوطنيّة هو مطلب ملح لتأمين استقرار المجتمع وديمومة الخيار الديمقراطي وحماية الحريّة، كما أنّه شرطٌ لسلامة الدولة ومناعتها، لذا فإنّ هذا المطلب يرتقي ليكون بمثابة الواجب الوطني وخيارا لا مناص منه لجميع الأحزاب ومكوّنات المجتمع المدني والمنظمات الوطنية والنخب.
لنتّحد…لنردم الأحقاد…لنزرع الأمل…ولنتفرّغ كلّنا لخدمة تونس العزيزة علينا جميعًا.
Comments